الوطن - السعودية "الملاحظ على الحراك الشبابي السعودي أنه ينأى بنفسه عن الانتماء إلى الخطابات السعودية الكبرى: الإسلامية، والليبرالية، والعروبية، إذ يمكن إدراجه في الخطاب المعولم، وتأثيرات التقنية الممتدة، أكثر من إدراجه في التيارات الفكرية" في غالب عمليات التغيير التي حصلت في دول العالم كافة، كان الشباب هم الأداة الأكثر حركة بين أدوات التغيير العديدة، بل كانت الحركات الطلابية أحد أهم عوامل التغيير في بعض الدول والثقافات، كالثقافة الأوروبية في الستينات والسبعينات الميلادية، حيث كان للشباب دور كبير في التغيير، وغالباً ما أعطت الدول اهتمامها الخاص بشبابها، كونهم يمثلون شريحة كبيرة وفاعلة في المجتمع، كما أن التيارات الفكرية، أو الحزبية تستخدم الشباب كقوة ضاغطة وديناميكية لتحقيق مكاسبهم الخاصة، فلم يسلم تيار من التيارات السياسية من تحرك، أو تحريك الشباب في أوساطه، سواء كان إسلاميا أو ليبراليا أو عروبيا. وإذا ما أردنا معرفة صدى هذه التيارات في السعودية فإن وجودها يحظى بالانتشار بين الأوساط الشبابية بشكل يتماشى مع الواقع السعودي، فنجد أن الصراع كان قويا طوال سنوات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بين التيار الإسلامي بشقيه: (السلفي والصحوي)، والتيار الليبرالي بخطيه: (السياسي والاجتماعي) بعد انحسار الصراع القديم بين الحداثيين والصحويين في الثمانينات، كما يحاول بعض الكُتاب في الثلاث سنوات الأخيرة إعادة الخطاب العروبي من جديد، وفي كل هذه الاتجاهات نجد الشباب فاعلين بشكل ملحوظ، وربما شكلوا مادة الحراك نفسه في هذه التيارات. عقب أحداث ما يسمى ب"الربيع العربي" اختلطت الأمور ما بين الحراك السياسي والديني والاجتماعي في أكثر من دولة، وذهبت الأمور في أكثر من وجهة، الكثير منها كان مدمراً، وقليل منها نجح، لكن في الداخل السعودي بدأت الرغبة في التغيير القائم على الإصلاح المتعقل واضحة بشكل جلي، قد يأخذ بعضها بُعدا سياسيا، وبعضها بُعدا دينيا، هما في شكل من أشكالهما صدى لما قبل هذه السنوات بكثير، وهما ليسا موضوع هذه المقالة، كونهما يحتاجان إلى رصد دقيق، إضافة إلى أنهما يدوران في إطار النخبة، أما أكثر عمليات التغيير فإنها نزعت نحو التغيير الاجتماعي، وصبت جهودها في هذا المجال، رغبة في تغيير البنية الاجتماعية إلى الأفضل، حسب رؤية هؤلاء الشباب، وبطرق سليمة تماماً لما رأوه من تبعات خطيرة في الحراك غير السلمي في بعض الدول المجاورة، لذلك كانت هذه الجهود تذهب في اتجاه الجهود الذاتية، أو اللجوء إلى وسائل التواصل الإلكترونية، التي هي أحد أهم وسائل الشباب والشابات في إيصال أصواتهم. ليس من السهل معرفة حجم ظاهرة الحراك الشبابي في السعودية، إلا أنه ملحوظ بشكل كبير لدى المراقب البسيط، فضلاً عن المتخصص، فمثل هذا الحراك يحتاج إلى إحصاءات لا تتوافر في الوقت الراهن، بسبب عدم وجود إحصاءات من قبل المؤسسات التي تهتم بذلك، إلا أن تتبع عدد من الحراك الشبابي في تويتر مثلا يمكن أن يعطي صورة عامة عن الموضوع. وحتى لا يتحول المقال إلى تنظير بارد، لا سند له، سأعطي هنا عددا من النماذج التي يمكن لها أن شكّلت ظاهرة في الحراك الشبابي: أولا: يأتي اليوتيوب أو الكيك، كأحد أهم وسائل التعبير تأثيراً، وتستخدمه نوعية الشباب، أو الفتيات، الذين يصرون على أنفسهم بشكل لا ممنهج، يقومون من خلاله بنقد عدد من الأوضاع الاجتماعية، أو الحكومية، بشكل كوميدي أحياناً، وأحيانا بشكل أكثر حدة من النقد الذي نجده في القنوات الفضائية، أو الصحف، وبعضهم يجنح إلى استغلال الدعم التجاري بعيداً عن إطار المؤسسات الرسمية المختصة، واشتهر كثير منهم بسبب هذه المقاطع كالشاب عمر حسين في برنامجه: (على الطاير) وهادي الشيباني في برنامجه: (يطبعون) وغيرهم الكثير، كما اشتهر بدر الحمود في عدد من أفلامه السينمائية، خاصة في فيلمه: (مونبولي)، وكذلك تأتي لجين الهذلول كإحدى أكثر الفتيات حضوراً وتأثيراً في برنامج الكيك، فضلا عن المقاطع الأخرى لعدد من الشباب والشابات الذين كسروا الإطار الاجتماعي إما نقداً، أو حتى رقصاً، بغض النظر عن قبول ذلك أو رفضه. النموذج الثاني: نقد الظواهر الاجتماعية من عدد من الشباب والفتيات خاصة في تويتر، حتى إن الموقع نفسه أعلن قبل فترة أن السعوديين هم أكثر الناس استخداماً له على مستوى العالم نسبة لعدد مستخدمي الإنترنت في البلد نفسه، وتبرز الشابة رغد الفيصل كإحدى أشهر الفتيات التي تكتب باسمها الصريح، وربما استخدم الشباب أو الشابات أسماء مستعارة ك(الشيخ طنف)، و(عاتكة) و(الحرية أنا) وغيرهم، لتعطي مساحة أوسع للنقد، على اختلاف في مستويات النقد والاهتمامات ما بين السخرية السوداء من الخطابات فيما بينها، أو نقد المؤسسات الحكومية، أو النقد الجاد، لكنه نقد غير ممنهج ولا يتسق وفق رؤية محددة. النموذج الثالث: حراك المطالبة بقيادة المرأة للسيارة، حيث اتسعت الدائرة أكثر من ذي قبل، (هذه الفكرة ساقها لي أستاذ علم الاجتماع الدكتور عبدالسلام الوايل في حديث بيننا)، فكانت المطالبة لا قيادات لها كما في التسعينات، إذ كانت محصورة بعدد بالكاد تجاوز الأربعين امرأة، فلم تعد المسألة تدور في إطار النخبة، بل صارت متسعة بعدد عريض من مناطق السعودية كافة، وكثيراً ما قامت النساء بقيادة سيارتهن بين فترة وأخرى، من غير اتفاق مسبق كما في أوائل التسعينات. ويمكن أن تساق نماذج أخرى غير ما ذكرت، ولعل غالب هذه النماذج تدور في العوالم الافتراضية أكثر منها مشاهدة على مستوى الواقع اليومي، فهي - إذن - أقرب إلى ما سماه المفكر الفرنسي: جان بودريار ب"عالم الواقع المفرد" الذي يقصد به تغلغل وسائل الاتصال الجماهيري في حياتنا اليومية، ويتكون من اختلاط أنماط السلوكيات مع الصورة الإعلامية، فهو خليط من سلوكيات وصور لا تنتمي إلى الواقع الحقيقي، بل إلى واقع خارجي. (راجع: أنوتني غدنز: علم الاجتماع. ص: 513). من الملاحظ في هذا الحراك أنه غير منتظم في إطار محدد، فهو عشوائي الاتجاه، فلا طريق يمكن التنبؤ به، أو إلى أين يسير، كما أنه حراك ينأى بنفسه عن الانتماء إلى الخطابات السعودية الكبرى: الإسلامية والليبرالية والعروبية، حيث يمكن إدراجه في الخطاب المعولم، وتأثيرات التقنية الممتدة، أكثر من إدراجه في التيارات الفكرية، فهو حراك تقني بامتياز، كما لعب عدد من المؤثرات على تشكله كبرنامج الابتعاث الدراسي الذي يحاول فيه بعض الشباب نقل التجارب الحياتية هناك إلى الواقع السعودي، خاصة في العمل النقابي، إضافة إلى توفر وسائل التواصل الحديثة، والرفاه المادي، والمثاقفة الاجتماعية - إذا صح التعبير -، لكن يبقى الوعي محدوداً في هذه الحراك، كونه لا يتكئ على منظومة فكرية نظرية واضحة يمكن أن يقف عليها هؤلاء، وفي الغالب أنها وفق السياق المعولم الذي هو نتاج الحداثة الغربية، لكن تحركهم ليس منظما بل عشوائي، لذلك من الممكن أن يتحول هذا الحراك، غير المنتظم، إلى غير ما يريدونه، إذ يمكن أن تتدخل النخب السياسية والدينية والفكرية لتحويل مكتسبات حراك الشباب لصالحها، وتذهب جهود أولئك لأدراج الرياح ويعودون إلى المربع الأول.