* مال الاقتصادية يندر أن تجد من لا يتابع سعر الذهب مهما كانت اهتماماته الأساسية، فهو يعتبر من قبل الكثيرين مؤشرا للوضع الاقتصادي سواء بالسلب أو الإيجاب وهي نظرة عمرها عشرات السنين. فمن المعروف أن الذهب كان لأوقات طويلة الضامن للعملة المصدرة من قبل البلد مما جعله معيار قوة أو ضعف القدرات الاقتصادية للدولة. لنفس السبب، تعامل الناس مع الذهب كضامن لثرواتهم أو مدخراتهم بحيث يتجهون إلى شراء وحيازة المزيد منه عند تخوفهم من الأوضاع الاقتصادية أو خلال الأزمات فهم يتوقعون زيادة الطلب عليه وبالتالي زيادة سعره مما يعوضهم عن أي خسائر يسببها تغير سعر صرف العملة او تراجع مستوى الدخل والقوة الشرائية. وقد أثبت الذهب صحة النظرة إليه كضامن أو كملاذ مالي آمن عبر السنين فارتفعت أسعاره خلال الأزمات الاقتصادية والحروب و انخفضت أيام الرخاء الاقتصادي. بدأت حركة اسعار الذهب فعليا في بداية السبعينات عندما أعلنت الولاياتالمتحدة الاستغناء عن "معيار الذهب" وتعويم العملات وفك ارتباطها بالذهب. تم تحديد سعر اونصة الذهب حينها ب 35 دولار الذي ارتفع منها حتى وصل الى سعر 850 دولار في عام 1980 و هو ما استمر كسعر قياسي حتى عام 2008. في عام 1980 تفاعل الذهب بقوة مع الأحداث السياسية والاقتصادية وأظهر التعريف الحقيقي لوصفه بالملاذ الآمن. في السياسة، كانت قوات الاتحاد السوفييتي قد غزت أفغانستان واحتلت البلاد بالكامل. في نفس الفترة وفي مكان قريب، قامت الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه واحتُلت السفارة الأمريكية وبها عدد كبير من الرهائن. اشتعلت المنطقة وبدأت أمريكا تحشد قواها السياسية لصد الغزو السوفيتي وتحرير الرهائن. أما من الناحية الاقتصادية فقد بلغ معدل التضخم في أمريكا نسبا عالية جدا فاقت 13٪ وتم رفع أسعار الفائدة من 11٪ إلى 20٪ في وقت قصير، بينما كانت نسبة البطالة 7.5 ٪ ووصلت في بعض الولايات أعلى من 16٪. إذن، كان العالم أمام احتمالات سياسية ممكن أن تؤدي إلى مواجهات بين القوى العظمى بالإضافة إلى بداية الكساد في أكبر اقتصاد عالمي، فكان الذهب هو الملاذ الآمن. تراجعت بعد ذلك أسعار الذهب مع انحسار احتمالات المواجهات العسكرية المباشرة واستقرار الاقتصاد ونموه بعد ذلك. ولم تعد أسعار الذهب إلى مستويات تاريخية جديدة كما ذكرنا حتى عام 2008. ما يعني أنه منذ عام 1980 حتى عام 2008، لم توجد أحداث قوية تجعل الذهب ملاذا آمنا مرة أخرى على الرغم من أحداث كبيرة كالحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج وأحداث 11 سبتمبر وغيرها الكثير. بالنظر إلى تفاعل أسعار الذهب كانت الأزمة المالية العالمية أهم وأقسى من كل الأحداث السابقة، وهو ما ظهر جليا في عام 2011 عندما سجل الذهب من جديد قمته الصامدة حتى الان فوق 1920 دولار للأونصة وسط أزمة الديون السيادية في أوروبا. مرة أخرى، تفوق الذهب على كل الملاذات الآمنة. منذ 2011 والذهب يسجل انخفاضات حادة وإن كانت متقطعة يتخللها بعض الارتفاعات المحدودة. عند المستويات القياسية، سمعنا التوقعات باختراق حاجز 2000 دولار، وأذكر أنني قرأت تقريرا لمحلل متحفظ يقول فيه أنه لن ينجر وراء حملات الشراء وسيشتري الذهب فقط بعد أن ينهي تصحيحه أي عند مستوى 1650 دولار. لم أستطع أن أجد أثرا لذلك المحلل لمعرفة ماذا حل به بعد هبوط الذهب تحت 1200 دولار. إذا أخذنا سعر القمة في 1980 و أجرينا عليه تعديل التضخم بأسعار اليوم لكان السعر 2458 دولار للأونصة الواحدة. ما يعني أن سعر عام 2011 ليس تاريخيا في الحقيقة وأن الذهب اليوم يتداول عند أقل من نصف سعره التاريخي. بمعنى اخر، فحتى الأزمة العالمية لم يعتبرها الذهب أسوأ من أحداث بداية الثمانينات. بناء للقراءة التاريخية للذهب وأسعاره، فإننا أمام احتمالين. الأول أن الأحداث الاقتصادية والسياسية المتلاحقة ليست بالسوء الكافي ليتفاعل معها الذهب و يرتفع إلى مستويات تاريخية جديدة، أو أن تحليل الذهب باعتباره ملاذا آمنا أصبح من الماضي ولم يعد صحيحا. شخصيا أميل للاحتمال الثاني، فلا يمكنني تجاهل انخفاض الذهب المستمر وسط أحداث اقتصادية أقل ما يقال فيها أنها ضبابية، كما لا يمكنني تصنيف الأحداث السياسية والعسكرية اخر ثلاث سنوات بأنها عادية. لذلك فإنني لا أرى غرابة في مزيد من الانخفاض للذهب حتى لو كسر مستوى 1000دولار، ولا يوجد ما يجعلني أعتقد أنه يبحث عن تشكيل قاع يبدأ منه رحلة ارتفاع جديدة، وحتى لو شاهدته يرتفع سأفكر مليا قبل اعتباره ملاذا آمنا من جديد. *رئيس تنفيذي لشركة استثمارية – دبي ahmad_khatib@