صحيفة الحدث إن رمت أن تكون " عقلانياً " و " متنوراً " وتنظر للأمور برؤية وبعد عن " الدغمائية " فعليك أن تتبع زمرة من الشباب الذي يظن انه سوف يتبوأ هذه المكانة حين يتغنى ب" إنكار " المؤامرة ، هذا إن أحسنا الظن في النزعات القابعة خلف هذه الحماسة للإنكار ، وإلا فهناك قرائن كثيرة تدل على أن القضية ليست هكذا دائماً وإنما هناك دوافع أخر . البعد الأيديلوجي : نظرة سريعة إلى المشهد سوف تجد أن جل من ينكر " المؤامرة " محملون بمشروع سياسي أو ثقافي هو في حقيقته يعاكس فكرة تأكيد " المؤامرة " ، ولذا تجد هؤلاء أكثر الناس حديثاً عن إنكار المؤامرة لأنهم في الحقيقة سوف يقضون على مشروعهم الخاص بمجرد الإقرار بهذا المبدأ . الوصاية النفسية : يتسلل هؤلاء إلى البعد الشبابي البسيط من خلال " الإيهام " بأن القضية هي " عقدة " نفسية مرضية ، تحتاج إلى طبيب حاذق لكي يخلص العالقين بها من خلال الإشارة إلى الآخرين والقول : " أنتم مصابون بعقدةالمؤامرة " تماماً كما يفعل بعض الرقاة أوتجار الأعشاب حين يقتحمون علاج السرطانات والأوبئة الخطيرة ويقدمون أنفسهم للناس على أنهم يملكون مالا تملكه المراكز الأبحاث العالمية . المقدمات المشوهة : يقدم هؤلاء دائماُ في الحديث عن " المؤامرة " بإيهام القارئ بأن الذين يتكلمون عن " المؤامرة " يقولونأن كل حركة أو سكنة أو حدث سياسي أو مشكلة دولية أو حرب أو سلام أوتوتر هو نتيجة " مؤامرة " ما ، وهذه المقدمة يقصد منها التأكيد عن البعد " المرضي " الذي يرتبط شرطياً بين القائل بالمؤامرة وبين المرض النفسي . التغييب السنني : حين يتحدث هؤلاء المتثقفة عن هذه قضية المؤامرة هم يصورون للناس حركة التاريخ بقراءة عرجاء ، فهو في المقابل يصورون التاريخ بأنه حركة طبيعية لا يتآمر أحد على أحد ، كل الأحداث فيه عفوية ذاتية ، الناس فيه تعشق السلام ، لا يوجد فيه توازنات قوى ، ولا مراكز نفوذ ، ولا استقاطابات حادة بين الأقوياء ، ولا مطامع رأسمالية ، ولا خلاف عقدي أو إيدلوجي يؤجج الصراع بين الناس ، كل أحداث التاريخ طبيعية ، وإنما المصيبة هي في " العرب والمسلمين " الموسوسين بالتآمر الخارجي عليهم ، هؤلاء المساكين – كما يقولون – الذين يقولون بأن إسرائيل أتت عن طريق مؤامرة غربية لتزرعها ، وادعوا أن هناك مؤتمراً اسمه بازل عقد ليقرر استراتيجية إقامة دولة إسرائيلية في فلسطين بعد خمسين عام من إقامته ، هؤلاء كلهم متوهمون عند هؤلاء المتثقفة ، فالأحداث طبيعية والمؤامرة مرض نعوذ بالله منه . ولا تتعب نفسك مع هؤلاء حين تريد التأكيد على سنة كونية وشرعية قررت في الكتاب العزيز واسميت ب" سنن التدافع " ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ، وأن الاختلاف سنة أرادها الله ، وأن حقيقة الصراع قائمة إلى قيام الساعة ، وأن " المكر " طبيعة بشرية لتحقيق المصالح ودحر الخصوم فكرياً ومادياً ، فلربما يعتبرون هذا الطرح داخل في ضمن " الدغمائية " المهلكة . الإلزام بما لا يلزم : يقرر المتثقفة المعارضون لفكرة المؤامرة قضية يلصقونها بخصومهم ، هذه القضية تعبر عن " البعد الإيدلوجي السياسي " والهدف الكامن وراء رفض المؤامرة ، فهم يصورون أن مجرد إثبات " المؤامرة " يعني أن الأمة تامة كاملة لا يوجد فيها عوامل فاسدة تهيئ للمؤامرة والتغيير الخارجي ، مع أن الجهات في الأمر منفكة ، فمهما اتفقنا وقررنا الضعف والعجز والتخلف في الأمة ، والتقهقر الحضاري ، والبعد عن مراكز التأثيرفإن هذا لا علاقة له البتة في إثبات المؤامرة أو نفيها ، وفي مقابل ذلك فإن إثباتها ليس إيقافاً لعجلة الإصلاح أو علاج الأخطاء ، بل هي الدافع الذاتي الكبير لكل هذا ، فإن الأمة " الآمنة " التي لا تشعر بخطر محدق ولا بمتآمر هي أمة مخدرة لا تنبض بالحياة ، وسوف تتكيئ على هذا الأمن حتى يداهمها العدو بلا تخطيط أو تآمر ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( من خاف ادلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ) . قتل الوعي : لا يحفل المتآمر بشيء أكثر من " منكري المؤامرة " ، لأن إدراك الخطط يعني التخطيط للصد ، ويعني إفشال المشروعات ، ويعني بث الوعي بخطورة المرحلة ، ويعني اليقظة وعدم الغفلة ، ويعني إمكانية إلحاق الهزيمة بالخصوم ، ويعني تغيير مسارات الأحداث والأحلاف والمصالح بناء على إدراك المؤامرات ، ويعني إستراتيجية المواجهة ، ويعني ضرورة الأصلاح . الوجهة الواحد ة في الإنكار : دائماً يحضرإنكارالمؤامرة إذا كان الفاعل " الغرب وأمريكا " ، وتبدأ هذه الصيحات تتعالى بالرفض وإدعاء العقلانية ، ولكن هؤلاء المتثقفة أنفسهم لايألون جهداً في الحديث عن " تآمر الحكام " على شعوبهم ، وأنهم يخططون لإعاقة التقدم ، وأنهم وراء كل تخلف ورجعية ، ولذلك ينقلب هؤلاء " مؤامراتية " إن كان الحدث مع الحكام ، ومنكرين إذا كان الحدث مع الغرب ، وهذا يجعل الإنكار محملاً بحمولة إيدلوجية ، ومنبئاً عن مشروع ورؤية سياسية تتوافق مع الرؤية الغربية ولنظرب لذلك بمثل على هذا : حدثت أحداث الخامس والعشرين من يناير الذي قلب حكم الرئيس مبارك ، والتقارير والقرائن والوقائع والأحداث كلها تشير إلى أن الحدث لم يكن وليد لحظة هياج جماهيري ، ولا عفوية ثورية لا محرك لها ، تشير الأحداث إلى أن الحديث يقف خلفه دولاً ومنظمات عالمية وجماعات وأحزاب داخلية ، وأنه معد ومخطط من سنوات قبل الحدث ، ثم يخرج في الشارع 5 ملايين من المصريين ، فتضغط أمريكا ، ويستجيب الرئيس ويستلم الجيش ويحصل التغيير ، وخلف هذا أناس يهتفون : لا مؤامرة لا مؤامرة .. يخرج الملايين في 30 / 6 ، يعترف الخصوم والأصدقاء أن الناس هاجت في الشوارع ، وأنه بلغ عدد لم يبلغه تجمع بشري ، وأن الذين خرجوا في الشوارع من كل الفئات للمجتمع المصري .. يصرخ هؤلاء وراءهم : مؤامرة مؤامرة ، فأين ذهبت نداءات العقلانية والرؤية والبعد عن العقد النفسية والأمراض الخبيثة المسماة ب" المؤامرة " ؟ إن الدافع لكثير من منكري المؤامرة ليس " المنهج العلمي " الذي يثبت أوينفي ويفحص المقررات ويقارن بينها ، وليس طلب الحق والحقيقة ، وإنما " الحمل الايديلوجي " الذي يصيب هؤلاء بنزعة " أهوائية " انتقائية " هذا إن أحسنا الظن مرة أخرى بأن هؤلاء سالمون من المعرفة بالمؤامرة والمخطط وما يحاك . المؤامرة .. تشويه الرمز يكاد يتفق مؤيدو الثورات العربية على أن " التغيير " لابد أن يكون على خطى الرؤية الغربية التي هي النموذج التام والذي على البشر إن كانوا يريدون تحقيق العدالة أن يحذووا حذوهم ، وهم بذلك قبلوا المقدمة القائلة أن كل ما يفعله الغرب هولتحقيق العدالة والتنمية والرفاه للناس جميعاً ، وأن نزعاتهم ليست نزعات استعمارية توسعية امبريالية تريد أن تحيل الناس إلى قطعان لا خيار لها ، وتحيل الناس جميعاً إلى مستهلكين وخدم للرجل الأبيض الذي يستحكم على العالم ويلزمهم بنموذجه الحضاري . إن مجرد إقرار هؤلاء بوجود " المؤامرة " يعني سقوط الرمز من العيون ، وتشويه الصورة الحالمة التي يرسمها هؤلاء عن المشروع الذين شعروا أنهم جزء منه نفسياً أو عملياً ، ولذا فالحقيقة أن الإنكار يصب في مصلحة " حماية المشروع السياسي " الذي ربما يهمس البعض من هؤلاء لأصحابه بالإقرار به ولكنه يتوافق مع رؤاهم وما يطمحون إليه . سلسلة المكابرات : يتحدث مؤكدوا " المؤامرة " عن خطط تهدف إلى تغيير الواقع ، وإضرار ستلحق بالمجتمات ، وتحولات ترسم خيوطها ويتم تنفيذها ، وأولئك يركضون خلفهم " مصابون بالمرض المؤامراتي " ، وتقع هذه الأحداث كما رسمها هؤلاء ، ولا يزال هؤلاء يكابرون ، تأكل النار أقدامهم وبيوتهم ، ولا يزالون يكابرون .. حتى إذا بانت الأمور واتضحت حين يقر المتآمر بالتآمر يختمون مطاف الأمر بأن هذا ما نستحقه لأننا ضعفاء ليس لنا قوة في المواجهة ، وهم في ذلك الوقت لم يقفوا أمام المخطط ولم تسلم الناس من تثبيطهم ومشكلاتهم العقلية . إنكار الواقع : في الوقت الذي يقر فيه هؤلاء المتثقفة بأن الغرب يمتلك آلافاً من المراكز البحثية والاستراتيجية التي ترسم الخطط وتبني الرؤى حول مستقبل بلادها في ظل الصراع العالمي والتسابق على مواقع التأثير والإنفاق على هذه المراكز مئات الملايين من الدولارات سنوياً ، واتصال هذه المؤسسات بمواكز القرار والتأثير والاستخبارات ، تجد هؤلاء يبسطون الأمر بحيث ينفون أي " مخرج " لهذه المؤسسات ، والتي هي نفسها تنشر تقاريرها الدورية ، وتبين فيها خططها للتغيير ، ورؤيتها للواقع العالمي ، وكيف سيتم التغيير ، وهم لا يبالون في ذلك لأنهم يتعاملون مع أمة " مغيبة " لم تدرك إلى الآن أن أحداث التاريخ هي في الحقيقة مؤامرة كبرى ، ولم تع الدروس من الحروب الصلييبة ، ولا من الاستعمار العسكري الغربي ، ولا من الحروب الباردة بين القوى المتغلبة ، ولا من الميزات النسبية التي تتمتع بها بلادنا والتي تجعلها مطمعاً للقوى كلها وبعداً استراتيجياً لديمومة الحضارة في الشرق والغرب ، ولا تدرك أن المنطقة التي نعيش فيها هي الشريان الفاعل في التجارة العالمية ، ولا تهتم بالبعد الإيدلوجي القابع خلف التحركات السياسية والاستعمارية ، ولا تفكر في " إسرائيل " الدولة المركزية التي تشكل بؤرة الصراع والتحدي بالنسبة للغرب والذي زرعها ليعيق عوامل الوحدة والقوة ، ولا تعرف اننا نمتلك 3 منافذ هي التي تتحكم بالتجارة بين الشرق والغرب ، ولا نعي تكدس الثروات النفطية والطبيعية وأن الذي يستحكم عليها سياسياً واقتصادياً يتحكم باقتصاديات العالم كله . هؤلاء المتثقفة لو أتيت لهم بكل آية في إثبات ما يخطط له الآخرون ويتآمرون به لن يصدقون إلا في حالة واحدة : ان ينخلعوا من مشروعاتهم وأفكارهم الخاصة التي تحركهم قسراً لإنكار المؤامرة ، ولذلك تجد أن هذه النزعة لا توجد عند " الوطنيين " الحريصين على الاستقرارورد العاديات ، بل تجدها – في الغالب – عن ثلة كبيرة من " الثوريين " الذين يجدون في " المؤامرة " مشروعاً جميلاً لتحقيق المآرب ، وهم في نفس اللحظة التي ينكرون فيها المؤامرة تجدهم يخططون ويتواصلون ويتآمرون وينسقون ويتسقطبون بل ربما تعاونوا حتى مع " القوى الكبرى " في تنفيذ بعض الاجندات ، اوصيروا أنفسهم مراسيل لهم يخدمون أهدافهم ومؤامراتهم من حيث يشعرون ولا يشعرون ، إن هؤلاء لن يكون وضعهم في حال التآ مر العالمي إلا اللهاث خلف من يكشف الخطط ليقولوا لهم : أنتم مصابون بعقدة المؤامرة . الاشتراطات الغبية : يشترط هؤلاء لمن يهتم بقضايا " المؤامرة " أن يلم بتفاصيل ما يحاك ، وعدم إلمامه بالقضايا الكلية والتفصيلية لمؤامرة ما يعني – عندهم – كذب الدعوى ، وقد غاب عن هؤلاء أن القضية " مؤامرة " ويعني ذلك الخفاء والكيد والتلون ، ويعني ذلك تغيير الخطط وتنوعها ورسم الاستراتيجيات البديلة بمجرد كشف أي مسلك لها ، وهذا هو الذي يصعب كشف المؤامرة من المتآمرين الذين يدركون الأبعاد ، بل ربما يرسلون رسائل تثبت صحة من ينكر المؤامرة للفت في عضد الخصوم وإيهامهم . ومع الإقرار بالمؤامرة فإن مثبتيها لا يقولون بصحة " التحليل " لكل حدث ، ولكنهم ينطلقون من قضايا " كلية " ترجع إليها جزئيات الأحداث السياسية وهذا يجعل " التفاصيل " متعسرة الفهم ، ولكن هذا التعسر لا يعني القضاء على الفكرة العمومية التي تثبت المخطط الذي يخفى أحياناً ويصرح به مرات كثيرة ، فالأمر إن خاضع للتحليل والرصد والمتابعة والمقارنة ، واشتراط الإصابة المطلقة في المعلومة لا يقبله عقل مدرك .