الاقتصادية - السعودية من الغريب أن تسمع تذمر خريج عاطل، وفي نفس اليوم يتذمر أمامك أحد المديرين، لأنه عجز عن إيجاد خريج شاب ليعمل لديه، أو أن يدخل السوق كل سنة آلاف الخريجين، ثم تجد من يقول لك أنا أبحث عن شخص جيد بخبرة معقولة، ولكني لم أجد حتى الآن. هذا حتى ما يحدث على الأقل في تخصص مثل المحاسبة، حيث يصف لي العديد من مسؤولي التوظيف حاجتهم الشديدة لخريجي المحاسبة ومدى استعداد بعض جهات السوق لخطفهم بعروض مغرية، ولكن في نفس الوقت ما زلت أجد كل يوم العديد من شكاوى المحاسبين العاطلين. التفسير الوحيد لما يحدث هو وجود خلل شديد في آلية العرض والطلب، إما أن وسائل التواصل متواضعة ولا تتيح فرصة المقابلة والمواءمة بين الخريج والوظيفة، أو أن تطلعات العارض والمطلوب تختلف وتبتعد كثيرا عن الوضع المثالي الذي يؤدي إلى توافق رؤية الطرفين، التي تتحول بطبيعة الحال إلى اتفاق وظيفي. قد يقول قائل لدينا بطالة "احتكاكية" بسبب التغييرات السريعة في سوق العمل، ومصير هذا النوع من البطالة التلاشي مع الوقت والتعلم. وآخر يذكر أن هذا أثر جانبي للبطالة المقنعة، حيث يشغل الكثيرون وظائف لا تنتج، ما يؤدي إلى تباعد توقعات الأطراف المشاركة في سوق العمل وبالتالي زيادة المسافة بين الممكن وما يحصل فعلا. ولكن إذا تجاهلنا هذا الطرح الاقتصادي التحليلي ونظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر الخريج نفسه، ماذا يتاح فعلا في السوق؟ ولماذا يجد نفسه بعيدا عنه؟ من المثير للسخرية أن بعض خريجي المحاسبة لا يصدق - ولا أقول لا يعلم فقط - بل لا يصدق بأن المحاسب قد يجد فرصة بذلك المرتب أو تلك المميزات. قد يكون السبب لأنه لم يقابل بعد من أصدقائه من يحظى بفرصة مثل تلك، فأقرب ما يجده من هذا هو مجرد كلام لا أكثر. وبعضهم يتخرج وهو ممتلئ بالتوقعات والطموحات ثم يكتشف أن السوق تمنحه عروضا متواضعة - بسبب المكان أو المرتب أو طبيعة العمل - ليكون وقع ذلك عليه كالمفاجأة، ولكن المفاجأة الأكبر أن يقف هنا ويرضى بهذا الوضع متجاهلا أو متناسيا فرصة البحث عن الأفضل، ثم للأسف يعتاد على ذلك. في أسبوع واحد فقط، سمعت بنفسي أكثر من مسؤول يقول: أحضر لي خريج محاسبة متمكنا ولديه بضع سنوات من الخبرة وسأمنحه عرضا مغريا يتجاوز مرتبه الحالي بمراحل، قد يصل إلى الضعف. وهنا يقع السر، أو الكلمة التي تحول الشخص من عاطل إلى مطلوب، وهي أن يكون "متمكنا". يتخرج الكثير من الشباب وهو لم يحظَ بعد بفرصة تدريب جيدة، وهي خطوة مهمة في مسار إعداده المهني سواء تم ترتيبها من جهة دراسته أم بحث عنها بنفسه. يعتقد بعض الطلبة أن اجتياز متطلب التدريب النظامي يكفي لسيرته الذاتية، بينما ذلك هو مجرد الحد الأدنى. أعتقد أن الطالب الجيد يحظى على الأقل بفرصتين إلى ثلاث فرص تدريبية كافية لا تقل كل منهما عن شهرين كاملين بالعمل في أماكن متميزة. من هنا تكون البداية وتتاح أول فرص التعرف على الواقع والحقيقة. عندما يبحث أحدهم عن خريج متمكن فهو لا يشترط أن يكون هذا الخريج خبير الخبراء في تخصصه ومجاله، وإنما أن يعي أساسيات تخصصه ويدركها جيدا ويحيط بأطراف المواضيع المهمة والمكررة بطريقة تسمح له بالتعامل مع المستجدات بمرونة ونباهة؛ يجب أن تنبئ قدراته عن مهارة التعلم السريع ويثبت إجادته اللغة الإنجليزية مع إظهاره قدرات ممتازة في التواصل، خصوصا تلك المرتبطة بالقيادة مثل العرض والتوجيه وكتابة الرسائل والتواصل مع الآخرين. لا يعلم بعض الخريجين أن العمل في أماكن الخبرة المعروفة - كالشركات الكبرى والدولية، أو مكاتب المراجعة في تخصص المحاسبة مثلا - يمثل ما يشبه الدراسة من جديد. هي مرحلة تعلم معتبرة لها تحدياتها وترجع بالكثير من المهارات والمعارف للموظف؛ يعرف مسؤولو التوظيف من استطاع تجاوزها بنجاح ومن حاول اجتيازها ولم ينجح ومن لم يحاول أساسا. وهذا يصنع الفارق الآخر المهم جدا للمتخصص "المتمكن". ذكرت المحاسبة كمثال وأنا متأكد من أن هذا ينطبق بالضرورة على أكثر من تخصص. لا يزال الكثير من الفرص ينتظر وجود المؤهل المتمكن الذي لم يحضر بعد، وبعض الخريجين للأسف لا يجيد كتابة رسالة بالبريد الإلكتروني وهو يعتقد أن شهادة اجتيازه مرحلة الدبلوم أو البكالوريوس تكفيه حتى في غياب بقية المهارات المهمة. لن ينفع الخريج المتخصص إسهاب الكلام في أسباب البطالة أو حقيقة وجودها، ولكن العمل على تعزيز مهاراته وخبراته والاستثمار في وقته هو ما سيضمن له اللحاق بركب الفرص التي لا يضمن أحد استمرارها. هو في النهاية قرار شخصي بحت، أن يصبح بإمكاناته المحدودة "عاطلا" عن العمل مضطرا للتعاطي مع المتاح من الفرص المتواضعة، أو أن يتحول إلى "مطلوب" متمكن، يحاول الآخرون اصطياده والظفر به.