الحياة - دولي لم تنتظر طهران إلى اليوم التالي ليتصل وزير خارجيتها بنظيره التركي محذراً أنقرة من أن قرار البرلمان التركي، الذي صدر بعد ظهر الخميس الماضي، والذي يجيز للجيش المشاركة بعمليات التحالف الأميركي العسكرية ضد «داعش» في العراق وسورية، يمكن أن يساهم في زيادة تفاقم الوضع في المنطقة، منوّهاً بأن على دول المنطقة أن تتعامل بمسؤولية تجاه ما يجري فيها من أحداث وألا تساهم في تعقيد الأوضاع. لا شك في أن القرار التركي استحوذ على اهتمام وانتباه أكثر من طرف دولي، وأولهم النظام السوري. وعلى الأرجح ستكشف الأيام المقبلة عن ردود أفعال عدة. فقد تلقفته وسائل الإعلام باهتمام وتحليل، بخاصة بعد التردد التركي في المشاركة بعمليات التحالف الأميركي، وعدم الحماسة لأهداف هذا التحالف أساساً التي تقتصر على مواجهة «داعش» من دون المساس بالنظام السوري. ومع ذلك ميّز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مشاركة بلاده في التحالف عن بقية الدول الشريكة بأن تركيا ستحارب «داعش» و «الجماعات الإرهابية الأخرى في المنطقة» و «ستلتزم بهدفها وهو الإطاحة بنظام بشار الأسد». غالبية التحليلات والقراءات اعتمدت على إمكانية، أو نية، التدخل البري العسكري التركي في سورية، مفسرة ذلك بافتقاد هذه الساحات قوات برية يمكنها أن تواجه قوات «داعش» كما العراق. أو لنيات تركية باحتلال قسم من الأراضي السورية بهدف عزل أكراد سورية عن أكراد تركيا والحيلولة دون أي إمكانية قيام دولة كردية شمال سورية. هذه التحليلات تجد ما يدعمها في تصريحات أردوغان في الأيام الماضية عن مساعيه لإقامة منطقة عازلة في شمال سورية وإعادة مليون ونصف مليون لاجئ سوري إلى بلادهم. وبالتأكيد مثل هذا الأمر يتطلب حظراً جوياً لقوات النظام السوري في شمال البلاد. كما أن صيغة القرار التركي العامة والفضفاضة والتي لا تحدد شكل المعارك التي يمكن أن يخوضها الجيش التركي في العراق وسورية إن كانت برية أو جوية، ولا حجم هذه المشاركة، تفسح في المجال لتفسيرات من هذا النوع. التدخل البري التركي المحتمل نظرياً مستبعد عملياً. فهذا الأمر ليس بمشيئة السلطات التركية، مهما كانت نياتها والفائدة التي ستجنيها منه. فقد اختارت أنقرة أن تكون مشاركتها في المعارك الآن، إن حصلت، ضمن عمليات قوات التحالف التي تستهدف «داعش» تحديداً، والتي تقودها واشنطن وتتحمل كامل مسؤولياتها، بل تحتكر كل مكاسبها إلا ما تشاء أن تتركه منها لحلفائها. وبالتالي، فأنقرة مقيّدة تماماً بالإرادة الأميركية في هذا الموضوع. وكذلك الأمر لو أرادت أنقرة خوض معاركها الخاصة تحت مظلة التحالف الأميركي، فسيكون تدخلها حينذاك حرباً على سورية حتى لو لم تشتبك مع القوات النظامية السورية. وهذا الأمر سيشوش كثيراً على «شرعية» العمليات الأميركية في سورية، ولن يعود بأدنى فائدة على واشنطن التي تجد مكسبها الرئيس في سورية إلحاق الهزيمة بموسكو، وهذه الأخيرة ليست موجودة في شمال سورية بل في عاصمتها دمشق، وتحديداً في القصر الرئاسي، وبالتالي فعلى الأرجح ألا تسمح واشنطن بذلك. الدول الكبرى في المنطقة، إضافة الى روسيا والصين، لن تسمح لتركيا بمثل هذه الإجراءات المتفردة. فلا إيران، التي أعلنت عن تحذيرها، ولا السعودية ستقبل بازدياد نفوذ تركيا أكثر، وبالتأكيد ستكون مصر في واجهة المواجهين لأنقرة في أي تدخل بري في الأراضي السورية. لكن يبقى الأهم موقف ضابط أمن المنطقة، إسرائيل، التي لا يوجد ما يبرر قبولها بمثل هذا التوسع التركي الذي سيؤدي إلى الإخلال بموازين القوى الرئيسة في المنطقة وربما بتغييرات في الحدود الجغرافية بين تركيا وسورية. فإسرائيل لم تجد حتى اللحظة ما يضيرها في واقع حال الأمور في سورية، بخاصة في شمالها. صحيح أن لكل واحدة من هذه الدول رؤيتها ومصالحها، أو مضارها، الخاصة من التوسع البري التركي، وعلى رغم تضارب مصالحها (كحال السعودية وإيران مثلاً) الذي سيحول دون وجود أي تنسيق أو تحالف بينها، سيكون من الصعب جداً على أنقرة أن تستفيد من هذا التعارض في المصالح. لكن أنقرة ليست في وضع تحسد عليه. فمواجهتها «داعش» ستجعلها عرضة لعدائها. ولن يكون من الصعب على مقاتلي «داعش» الذين يأتون في غالبيتهم عبر الأراضي التركية، وينقلون أسلحتهم عبرها، ويبيعون نفطهم فيها، أن ينقلوا بعضاً من عملياتهم إلى مدنها وبلداتها. وفي المقابل، فعدم تصدي أنقرة ل «داعش» سيجعلها عرضة للاتهامات بدعمها لها. وكذلك فترك أنقرة لقوات «داعش» الاستمرار في اعتدائها على أكراد سورية بدأ يستفز مواطنيها الأكراد ويهدد مفاوضاتها مع حزب العمال الكردستاني بالانهيار، كما هدد عبدالله أوجلان. وفي المقابل من كل هذا، فإنها تتلقى ضغوطاً أميركية وأوروبية شديدة لحضّها على التوقف عن ترددها ومشاركتها الفعلية في الحرب على «داعش». ربما أمام كل هذا ستضطر أنقرة الى الاكتفاء بالسماح لقوات التحالف باستخدام قواعدها العسكرية، وبضبط حدودها أمام تنقل المقاتلين الأجانب، وبالتعاون الاستخباراتي «الصادق» مع الدول الغربية في ما يخص مواطنيهم المجاهدين في سورية، إضافة الى استمرار رئيسها، أردوغان، بإطلاق العبارات النارية، التي تحولت إلى دخانية مع مضي الوقت، في مواجهة بشار الأسد، على رغم أن هذا الموقف من الأسد بات يجيّره الرئيس التركي ليجعله ذريعة لعدم الانخراط الفعلي في عمليات التحالف، لإدراكه التام بأنه يستحيل على التحالف أن يستهدف نظام الأسد الآن في ظل الخطر الداعشي. لا أهمية هنا لموقف النظام السوري الذي سيقبل بالمشاركة التركية في عمليات التحالف إن بقيت بحجم المشاركات العربية وشكلها، وسيندد بها إن تجاوزته. هذا على رغم أنه يعتبر أن أنقرة راعية الإرهاب في بلادها مثلها مثل الدول العربية الأخرى المشاركة في عمليات التحالف. المعارضة السورية ستعلق الآمال العظيمة وتعيش على حلم كاذب بأن تقوم تركيا بما خذلتها به الولاياتالمتحدة من حظر جوي واحتلال لأراض سورية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى صدام مع الجيش السوري يتسبب بتحطيمه وسقوط النظام وتسلّمها السلطة على طبق من فضة. وإلى أن تستجد ظروف لا نعرفها الآن، سيستمر المواطنون السوريون في التشرد واللجوء إلى كل البلاد المجاورة والبعيدة، ومن يبقى منهم داخل البلاد سيعيش ويلات السيارات المفخخة تستهدف مدارس الأطفال، أو البراميل المتفجرة تستهدف كل ذي روح وحياة. وسيبقى رجال سورية المفترضون (ذكوراً أو إناثاً)، الذين يمكنهم أن يملأوا مقعد اللاعب السوري بين جميع هذه الأطراف الدولية، غائبين إلى ما شاء الله. أما «داعش» فستبقى، في المدى المنظور، الوحيدة ذات الأثر الفاعل في الساحة السورية، تتحرك على وقع خطاها بقية الأطراف الأخرى، الدولية والمحلية. * رئيس تيار بناء الدولة السورية