الاقتصادية - السعودية ارتفعت معدلات قضايا الخلافات العائلية على الميراث في المحاكم الشرعية إلى أعلى مستوى يمكن أن نتصوره، حتى بلغت نحو 233 قضية في عام 1435ه، وما زالت هذه الخلافات تشعل الحرائق في أضلاع ومفاصل اقتصادنا الوطني. ونعرف جميعا أن قضايا الخلافات بين أصحاب الشركات العائلية تقع في قلب هذه القضايا، وتقول الإحصاءات غير الرسمية، إن الشركات العائلية تمثل نحو 90 في المائة من عدد الشركات في السعودية، وهي مساحة شاسعة على طول وعرض النشاط الاقتصادي الوطني. وعلى سعة هذه الشركات وأهميتها فإنها -للأسف- لم تنظم نفسها ولم تضع نفسها في حضن علوم الإدارة الحديثة، بل ما زالت معظم الشركات العائلية ُتسلّم نفسها للتلقائية والعفوية المدمرة بعيدا عن التخطيط الموضوعي والعلمي، مما جعلها ضحية للخلافات التي كثيرا ما تنشب في الجيل الثاني أو في الجيل الثالث على أكبر تقدير. ولذلك نستطيع القول، إن في الشركات العائلية إعاقات كثيرة تلحق أضرارا بالغة بالاقتصاد الوطني، ولقد حان الوقت كي تعالج هذه الشركات أوضاعها حتى تبتعد عن مناطق التفكك والخطر. ونعرف جميعا أن الرعيل الأول لبعض الشركات العائلية نجح في زيادة رأس مال الشركة إلى مئات الملايين، بل آلاف الملايين من الريالات. ولذلك حينما تفقد الشركة هذا العائل العملاق، فإن الخلافات تبدأ في التسلل إلى بعض أفراد هذه العائلة أو قد تتفجر في حلقة من حلقاتها، ثم تطال كل العاملين وكل المتعاملين حتى تعصف الخلافات بالشركة كلها من أدناها إلى أعلاها. ومهما حاول الكبار تجنب التورط في النزاعات، فإن النزاعات -بين الأجيال- لا تحسم بالرومانسيات واللثمات، وإنما يحسمها التنظيم الإداري الفعال وبناء المشاركة على مبادئ العدل والنزاهة والجدارة، وليس على مبادئ القرابة والنسب والأواصر. ويجب أن نُسلّم بأن هناك حتمية إنسانية وبشرية للصدام العائلي، وبالذات إذا انتقلت الشركة إلى الجيل الثالث، فإن خصيصة الاحترام والتوقير للشيخ الكبير لن تكون الضامن لكبح الخلافات، بل تبدأ المودة والرحمة في الاختباء والضمور، وتعلو عليها ما يمكن أن نسميه -عند البعض- البحث عن الاستقلال والانفراد بالثروة، كذلك من الخصائص التي يمكن أن نلاحظها في بعض أفراد العائلة خصيصة اللجوء إلى الصدام والعنف بدلا من اللين والاستعطاف والتوسيط. وهناك معلومة سربها في الأسبوع الماضي القاضي السابق في ديوان المظالم الشيخ حسان بن إبراهيم السيف وقال فيها، إن عدد قضايا دعوى الإرث بلغ في عام 1435ه نحو 233 قضية في أنحاء المملكة المختلفة، ويشير الشيخ حسان إلى أن من أهم الأسباب المؤدية إلى الخلافات بين الورثة على التركات هو غياب الإفصاح والشفافية بين المورث وورثته، وعدم التوثيق عند كل صغيرة وكبيرة، وكذلك عدم تحديد حدود العلاقات بين المورث، وبين أبنائه الذين يعملون معه أو بينه وبين شركائه، مع اختلاط الأصول والعقارات الشائعة والأموال ذات المصادر المتعددة، كذلك من الأسباب المؤدية إلى الخلافات بين الورثة ضعف صياغة الوصايا وغموضها، أو ارتكاب المورث جريرة تفضيل بعض الأبناء أو الزوجات وإغراقهم بالهبات والأعطيات دون البعض الآخر، إضافة إلى شيوع الخلافات الشخصية بين الورثة، وبالطبع يترتب على كل ذلك غياب الثقة وغياب الشفافية والنزاهة بين الورثة، كذلك استمرار بعض الورثة أو الوكلاء بالتصرف في التركة دون تفويض من الورثة، أيضا من الأسباب تأخر بعض الورثة في المطالبة بحقوقهم بسبب الكسوف والخجل من الكبار، أو بسبب طول الإجراءات وبيروقراطيتها. إن هذا الكم الهائل من القضايا التي تنظرها المحاكم السعودية في هذا العام 1435ه فقط يؤكد بأن النمو الاقتصادي السعودي يتعرض لإعاقات تلحق به أضرارا حقيقية نتيجة الخلافات بين الورثة على توزيع التركات. وطالما عرفنا أهم الأسباب المؤدية إلى وقوع الخلافات، فإنه يسهل علينا وضع الحلول، فالحل هو أن نضع قواعد للتنظيم الإداري المؤسسي في الشركة بحيث إذا انتقل الراعي الأول إلى الرفيق الأعلى، فإن الشركة لا تتأثر بهذا الفقد، بل تظل مُلْكا ينبسط ويتسع لجميع الورثة بالقسط والعدل والجدارة. ولقد حان الوقت كي تتدخل الحكومة ممثلة في وزارة التجارة والصناعة وتصدر نظاما أبويا ملزِما لكل الشركات العائلية أو التجمعات العائلية، وتقوم بحملات توعوية لمأسسة الشركات العائلية، وللحكومة الحق في وضع مثل هذا النظام لأن الخاسر الأكبر ليس أطراف القضية فحسب، وإنما المتضرر الأكبر هو الاقتصاد الوطني الذي يدفع الثمن غاليا نتيجة تصدع إمبراطوريات اقتصادية وطنية على مائدة الخلافات العائلية. إن تاريخ الاقتصاد السعودي يحفظ أسماء بعض الشركات العائلية السعودية الكبرى التي وقعت ضحية الخلافات بين الورثة، إمّا لخلاف في الإدارة أو خلاف على المناصب، أو خلاف على الحصص، الأهم من ذلك أن المأسسة تحمي الشركات من تطاول الأحفاد وأحفاد الأحفاد. وهناك الكثير من الشركات وعت الدرس وذهبت إلى حيث يذهب الناجون والناجحون وأعادوا هيكلة شركاتهم على مبادئ الجدارة والشفافية والعدالة والنزاهة وأعطوا لكل ذي حق حقه، وجنبوا شركاتهم مغبة الدخول في المجهول! ونؤكد في الختام إذا كان المال نعمة، فإن بريقه لا يعمي الأبصار فقط، بل يعمي الأبصار والقلوب.