الوطن - السعودية "منعنا أنفسنا من أفضل منتجات الحضارة بشبهة غير صحيحة، وغير قابلة للتطبيق، ولجأ القضاء إلى البحث عن مصادر أخرى غير مهنية من خارج القضاء والنظام مثل الفتاوى، الأمر الذي يتسبب في إشكال كبير، فالفتوى تختلف تماما عن القضاء" يُروّج البعض وكأن القضاء لدينا هو مجرد مؤسسة دينية متشددة تحارب الإصلاح، والمؤسف إذا كان هذا الترويج من ذوي المسؤولية داخل الجهاز! بالرغم من أنني ومن معرفة دقيقة ربما أجزم بأن الأغلبية الساحقة داخل الجهاز تهفو وتحترق لأجل الإصلاح ورغبةً فيه. نعم هناك قضايا اختلافية كثيرة، وهناك رؤى متنوّعة وهذا بطبيعة البشر، إلا أنها ليست عائقا إطلاقا أمام الإصلاح، ومن يُروّج لهذا فلا شك أنه فهم قاصر وغير صحيح، وحتى الأمور الخلافية بالإمكان معالجتها بالبدائل أو حتى بالحوار الأخوي الداخلي. بدأت الحديث بهذه المقدمة لأنني لم أر أي تقدم ولو خطوة واحدة لأجل معالجة مشكلة موضوع هذا المقال، وهي معضلة التقنين للشريعة والإلزام بها، فلا حجة لمن يشرف على التطوير وهو لم يقم بشيء في هذا المضمار الجوهري، ثم يتعذر بمعارضة الإصلاح. في هذا المقال؛ أود مناقشة فتوى تحريم التقنين من جوانب مختلفة، ليست مناقشة علمية بحتة، فقد سبق أن ناقشتها كثيرا، ولكن سأناقشها من حيث إمكانية تطبيق هذه الفتوى، وأنها مجرد موقف مبني على تصور غير دقيق للتقنين والقانون، وسأضع العديد من الصور التي تناقض هذه الفتوى، كما أذكّر هنا وبوضوح التقدير البالغ للعلماء الأجلاء ممن ينحو نحو هذه الفتوى. من أكبر معضلات الفتوى؛ أنها حرمت البلد مما يُسمى بالتطوّر التراكمي في مجال التشريع النظامي "القانوني"، فمن المعلوم أن القانون/ النظام يعتبر عصارة الحضارة الإنسانية، والتي تنمو مع الوقت والزمن بشكل تراكمي، إلا أننا وللأسف نعتبر جامدين في نفس المكان، كون القانون لدينا يعتمد على الشخص اعتمادا شبه كلي، فكل قاض يجتهد ويبحث بنفسه ويتطور فكره تدريجيا، إلى أن يكبر ويخرج من الجهاز، وهكذا يأتي من بعده، بخلاف الأمم الأخرى التي يتطور القانون لديها بشكل تراكمي (من خلال التقنين أو السوابق)، فقضاة اليوم يعتمدون على معرفة وجهود من سبقوهم بالخبرة والمعرفة من قضاة الأمس وهكذا. بالتأمل بعمق في فتوى منع التقنين؛ نجد أنها متناقضة في أصلها، ولو التزمنا بهذه الفتوى وباطراد في استدلالاتها لكان من المستحيل أن يقوم القضاء بشيء! وسأذكر العديد من الأمثلة لأجل إيضاح الفكرة. هناك الكثير من الفتاوى التي في حقيقتها تقنين، وكيف للحاكم أن يلزم الناس بشيء فيه خلاف بين الفقهاء إلا من خلال التقنين! وهذا بالإجماع من حق ولي الأمر أن يلزم الناس برأيه الشرعي طالما كان هناك خلاف بين العلماء، وإلا لما استقامت الحياة حتى لو كان الشخص الملزَم هنا لا يرى نفس الرأي! هذه الصورة المبسطة في النظرية السياسية في الإسلام قديما هي انعكاس لضرورة الإلزام الآن برأي الدولة من خلال المؤسسات الحديثة للناس، وكما يُباح للحاكم ذلك، بلا تعارض للآية (فاحكم بين الناس بما أراك الله)، فمثل أن الحاكم المسلم يحكم برؤيته ولا تعتبر متعارضة مع الآية، فإن الدولة/ ولي الأمر اليوم يجب أن تقوم بنفس الدور. لنأخذ مثالا آخر من آراء الفقهاء قديما؛ فإلزام الناس بفتوى أهل البلد كما يعبّر الفقهاء دائما هو جزء من مبدأ التقنين، فبأي حق أن تلزم من يرى عدم شرعية قنوت الفجر في بلد الشافعية بالقنوت أو عكسه؟ حتى الحنابلة يعدّون القراءة بغير رواية أهل البلد من المكروهات في الصلاة! وكذا تغطية وجه المرأة مثلا، بأي حق أن تلزمها به وهي تتبع أحد المذاهب الأخرى مثلا إلا بالتقنين؟ وكذا إلزام الناس بالفتوى التي ترى حرمة قيادة المرأة، وفتوى تقدير الدية وقتل مهرب المخدرات، وهكذا. كل هذه الآراء مبنية على استعمال التقنين واختيار رأي من الآراء وإلزام الناس به، الأمر الذي يدخل ضمن المحاذير التي يمنع المعارضون التقنين من أجلها! سأنتقل إلى إلزام آخر من نوع مختلف؛ الكل الآن يؤمن بضرورة تقنين الإجراءات للتقاضي، وهي تمارس فعليا اليوم بلا اعتراض من أحد بمن فيهم المعارضون للتقنين، وتساؤلي هو كالتالي؛ بأي شيء تمنع صاحب الحق الذي يطلب حقا كفله الله له من الاعتراض على حكم القاضي بعد مضي فترة الاعتراض (30 يوما)؟ أليس هذا تقنينا أيضا؟ وهكذا في شطب الجلسة وفي تقادم الاعتراض لالتماس إعادة النظر. لماذا لا نقول إن القاضي يجب عليه أن يحكم بما أراه الله، ولا يجوز أن نمنعه بتقنين طالما تدخل القضية في اختصاصه الولائي والمكاني، وكون الموضوع مما قد تختلف فيه الآراء؟ ويندرج هنا الكثير من الإجراءات التي تنظمها القوانين دائما لأجل الحفاظ على العدالة وعدم تعطيلها، الأمر الضروري اليوم لأجل استقرار البلد والحياة. عندما يكون هناك تقنين؛ فإنه يكون من خلال مجتهدين ومختصين بعمل جماعي متقن، ويحكم القاضي بحكم أولئك موضوعيا، كما يمارَس حاليا بأن القاضي قد يحكم من خلال فتوى فلان وليس باجتهاد القاضي نفسه، ومثل عمل الدوائر الجزائية التي يكون فيها أكثر من قاضٍ سواء بشرط الإجماع أو الأغلبية، فإن الحكم يكون فيها باجتهاد مجموعة وليس قاضيا فردا، وهذه الصورة لا تختلف كثيرا عن مثال التقنين أعلاه، إلا أنها بصورة أعلى، أما التخريج الفقهي البحت لجواز التقنين فيمكن الاستدلال عليه بأدلة كثيرة ليس هذا مكانها. الخلاصة؛ أننا منعنا أنفسنا من أفضل منتجات الحضارة بشبهة غير صحيحة، وغير قابلة للتطبيق ولا الاستمرار، ولجأ القضاء إلى البحث عن مصادر أخرى غير مهنية من خارج القضاء والنظام مثل الفتاوى، الأمر الذي يتسبب في إشكال كبير، فالفتوى تختلف تماما عن القضاء، وقد كتبت مقالا بعنوان "الفتوى بين الرأي والقانون"، شرحت فيه هذه الإشكالية، وضرورة التفريق بين الفتوى والقانون "النظام" الذي يجب أن يحكم به القاضي الشرعي.