المصري اليوم - القاهرة "ده راجل بتاع مخابرات ويعرف ربنا"..لم تستقم جملة محدثي في ذهني، إذ ما علاقة المخابرات ب"ربنا"؟ قالها الرجل البسيط قاصدا المرشح الرئاسي المشير عبد الفتاح السيسي..الذي تطرق لذكر المخابرات في أكثر من موضع في حواره مع الأساتذة..عيسى والحديدي، تارة حول عمله هو، وتارة حول عمل أحد أبنائه. بعد أن سمعت هذا التعبير "الغريب"، تذكرت إحدى قريباتي التي قالت لما عرفت أن فلانة الفلانية تقدم لها عريس، يعمل ضابطا بالمخابرات (قالوها همسا بالطبع، كأنهم يتداولون سرا، لم يعد سرا مع عشرات المرات من التداول الهامس!). فور أن سمعت أن العريس ضابط مخابرات، قالت: "أكيد هيخليها تتحجب..وتبطل اللبس الضيق اللي بتلبسه ده". وساعتها لم أستوعب ما هي علاقة المخابرات بمنع اللبس الضيق أو الحث على الحجاب، أو الحفاظ على أخلاق المجتمع والذود عن الدين والدفاع عن حياض الشريعة. بالطبع لا أنفي التدين عن ضباط المخابرات ولا أقصد التشكيك في معتقدهم الذي لا أعرفه أصلا (ولا أظنه يخرج عن طابع الإسلام الأزهري)..ولكن لماذا لا يقول الناس مثلا: ده شيف حلويات شرقي وبتاع ربنا؟ ده مهندس مساحة وبيصلي الفجر حاضر؟ وأقصد تحديدا المثالين اللذين سقتهما بالأعلى، واللذين يشابهان مرات من الحديث عن ضباط المخابرات مع زملاء وأناس عاديين جدا، كانت المخابرات مرادفا فيها في كثير من الأحيان للرجولة والحسم والدهاء، ومن ثم ف"الدين". في دولة السودان الشقيق، وقبل نحو 6 أعوام تقريبا، التقيت رجلا مصريا في أم درمان، كان الرجل مصري الجنسية، سوداني المولد والمحيا (وربما الممات، ألا مد الله في عمره إن كان حيا، وليرحمه إن كان قد فارق دنيانا!)، كان في عقده السابع، ويتحدث باللكنة السودانية ولم يسافر لمصر مرة واحدة في عمره..ببساطة كان سودانيا، يحكون له عن أصوله المصرية القابعة في بقعة ما من لاوعيه. سألته عن مصر وشعورها تجاهها وهو لم يرها.. قال لي الرجل: مصر دي حاجة كبيرة..حاجة عظيمة..وبصراحة "رأفت الهجان ده مفخرة لكل المصريين"! لم أفهم كيف قفز رأفت الهجان فجأة إلى حديث رجل وحنينه إلى موطنه الأصلي الذي سمع عنه من أبيه وأمه..وكيف ولماذا اختزل مصر في رأفت الهجان؟ حكي لي الرجل ساعتها عن مسلسل "رأفت الهجان" الذي تعرف على مصر من خلاله، وكيف شكل المسلسل وجدانه وعقيدته حول مصر وجيشها ومخابراتها..كان الرجل يحكي بعينين فرحتين، توشكان على الإغروراق دمعا. هزني الموقف حينها! فبينما نسخر نحن من مسلسل رأفت الهجان، وكلاسيكيات دراما أدب الجاسوسية، ربما نتجاهل عن عمد- أو تماهيا مع الضرورة الكوميدية للسخرية مع الواقع- أن هذه المسلسلات في الوقت الذي بثت فيه، كانت أقرب لطوفان هادر اجتاح وجداننا في ذلك الحين. ورغم التهافت الدرامي الذي نلحظه الآن على هذه الأعمال التي مر على إنجازها قرابة ربع قرن، إلا أن السحر الساري بين مشاهدها لا ينقضي. ومازالت موسيقاها ومشاهدها المؤثرة تتمتع بقوة خلابة كأنها مدفوعةُ بطاقة غيبية. لعبت الأعمال الدرامية المخابراتية دورا هائلا في تشكيل عقيدة الشعب المصري تجاه جهاز المخابرات العامة..وهيئت لوجدانه أن كل ضابط مخابرات هو محسن بيه..وكل مسؤول عن محاربة الجاسوسية هو الريس زكريا. الشخصيتان تم رسمهما بعناية بالغة..كل منهما أمد بالمال رأفت الهجان وجمعة الشوان في لحظة حرجة من عمره، ثم تجرد من ذاته ونسب الفضل لمصر (مصر هي اللي بتدفع يا رأفت..أو يا جمعة).فكان ضابط المخابرات ممثل مصدر المال الغيبي الذي ينقذك من أزمة طاحنة..باسم مصر! ثم لم يكن رأفت أو جمعة مطالبان برد هذه النقود ل"مصر". ثم إن كلا منهم قد تورط عاطفيا في الآخر...كان رأفت يرى في محسن بيه أخاه الأكبر أو والده..وكذلك في علاقة جمعة مع الريس زكريا..في واحدة من تنويعات التوحد بين الأستاذ وتلميذه، والطبيب ومريضه، والقائد ومقوده، كان الأمر مركبا عاطفيا على نحو آسر فعلا. كنت أسترجع كل هذه الأفكار، بينما يحدثني الرجل البسيط بحماسة بالغة عن تصويته الحتمي لصالح المشير السيسي (الراجل بتاع المخابرات اللي يعرف ربنا)..وكنت أرى الامتداد طبيعيا بين الخطوط جميعا، وكنت أرى الاتساق بائنا ومنطقيا. فالمشير، رئيس المخابرات الحربية الأسبق، ووالد ضابط المخابرات الشاب، هو خلاصة محسن بيه والريس زكريا ونديم قلب الأسد.. سيفك زنقتك المالية في اللحظة الحرجة، متواضعا وناسبا الفضل لمصر (مصر هي اللي بتدفع)..ثم سيحبك وتحبه، بتجريد غير مخل بالمعنى! ما أذهب إليه في السطور أعلاه، يجسد واقعا ملموسا من نكران الرواية الوطنية الرسمية والتشكيك فيها من ناحية النخبة التي تصر على أننا لم ننتصر في أكتوبر 73، وأن الجيش المصري لم يكن وطنيا منتميا لمصلحة الوطن طوال قرون من الزمان، وأن المخابرات العامة متخصصة في خدمة أمن الحكم ومتورطة في "أشياء ما" لا ندريها. ويجسد في مقابل هذه الرواية الكئيبة الغبية غير الدقيقة في كثير من مواضعها، والفجة في كثير من صياغاتها، الرواية الشعبية التي ترى أن الجيش والمخابرات هما خيرة هذه الأمة وهما زخرها إلى يوم الدين. دعنا نسخر من رأفت الهجان وعلاقته بمحسن بيه، ودعنا نسخر من المشير السيسي وابنه الذي يعمل بالمخابرات دون واسطة..لكنا سنظل أغبياء في مواجهة عاطفة جماهيرية، لا تتعقل بمقدار ما تنجرف بمشاعرها، ولا تأخذ في حسبانها معلوماتنا الخارقة عن كل شيء ورؤيتنا الثاقبة العبقرية. وبمعزل عن صدق رواية النخبة أو دقتها، في مواجهة دقة الرواية الرسمية التي أضحت الرواية الشعبية، تقع حيرتنا جميعا..لكن ببساطة شديدة ومع شعب عاطفي (وذكيٌ وحصيف رغم الرواية النخبوية التي تتهمه بالغباء!)..يمكن القول بأنه: "قضي الأمر الذي فيه تستفيان"