مجلة الرجل - السعودية لا يوجد في الكون من لا يحب أمه، هي علاقة فطرية تشمل الإنسان كما الحيوان، الفرق يكمن في طريقة التعبير واختلافها من شخص إلى آخر. هناك من يؤجل التعبير عن حبه لوالدته إلى حين، متذرّعاً بمشاغل دنيا لا تبقي ولا تذر، حتى يصبح ذلك الحين أحياناً وأحياناً. وآخرون لا يعرفون حلاوتها لأنهم لم يتذوقوها أصلاً، وقلة محظوظون يفعلونها في الوقت والزمان الصحيحين؛ فهل نحن من المحظوظين؟ ينادي الإنسان أمه ملايين المرات في حياتها، فإذا غابت تمنّى لو نطق بها مرة واحدة. تمنّى لو قبّلها نصف قبلة بعد رحيلها، وهي التي كانت إلى جانبه طويلاً، لكنه لا يفعلها إلا نادراً. يستذكر الإنسان بعد رحيل والدته كيف أضاع لحظات لا تعوّض، منشغلاً عنها بقراءة صحيفة أو مشاهدة تلفاز أو اتصال هاتفي، يتمنّى لو عاد ذلك الوقت، فاقترب منها أكثر وانشغل عنها بها، لكن متى عادت عقارب الساعة إلى الوراء؟ كل البشر يعتقدون أنهم يحبون أمهاتهم، كما لم يحبوا أحداً في الدنيا، والدليل أولئك الذين يجرمون ويرمون بهنّ في غياهب دور العجزة، يبررون فعلهم من باب الرحمة والبحث عن حياة أفضل لهنّ، كعادة الناس في تبرير أفعالهم، مهما كانت دنيئة. هل يرى المجرم نفسه مجرماً؟ وهل يظن السارق أنه سرق يوماً؟ بل أكثر الناس غروراً يرى نفسه متواضعاً جداً، وعلى هذا المنوال يظن أغلبية الناس، خطأً، أنهم فعلوا كل ما في وسعهم لبرّ والدتهم، فهل هذا صحيح؟ يقول الشيخ صالح المغامسي "ليس البرّ أن تطلبك أمُّك طلباً فتلبيه، فهذا داخل في مرحلة الوجوب، لكن البرّ أن تنتزع من عينيها الطلب، وأن تعرف ما تريد قبل أن تطلب، وأن تحفظها من أن تسأل". اللهم ارحم تقصيرنا في حق أمهاتنا. ترحل الأم وتكسر قلوب أبنائها، يتذكرون كل لحظات حضورها وتفاصيلها وكأنها لم تغب قط، إنه غياب يشبه الحضور، تخيّلوا لم أكن أعلم أن للصوت رائحة، إلا بعد أن اشتقت إلى رائحة صوت أمي. فعندما كانت تلفّني سحائب الحزن وغيمة الألم، أجلس عند قدميها واستمع إليها، فتتلاشى كل الهموم، أما وقد غابت، فإن الألم يزيد والحزن يستبدّ، والهمّ يضرب أوتاده في أركان الروح. أما أولئك الذين ينعمون بقرب أمهاتهم، فهم في سعادة كبرى، لكنهم لا يعلمون. سيسيرون في الدرب الذي سار عليه غيرهم بعد رحيلها. مَن ترحل أمه لا يتخيّل أن هناك من ينعم بقرب والدته ولا يمرّغ أنفه بين قدميها. من منكم تعلق بقدمي امرأة؟ يقبلها فتكفيه عن الدنيا، أنا فعلتها.. قبل أن تغرب شمسها وترحل، وكم أشتاق أن أكررها ولو مرة واحدة مجدداً، يقول نزار: أيا أمي.. أيا أمي.. أنا الولدُ الذي أبحر.. ولا تزال بخاطره.. تعيش عروسة السكر.. فكيف.. كيف يا أمي.. غدوتُ أباً ولم أكبر؟ عندما غابت شمس والدتي قبل عامين (7/11/2011) لامني من لام: لماذا لم تكتب مقالاًعن والدتك؟ تكتب عن الناس جميعاً إلا أقربهم إليك. كان ردّي أن مساحة المقال مخصصة لاهتمامات للقراء، وليس ملكاً شخصياً يتحكم به الكاتب كما يشاء. لكني الآن أصدقكم القول ضعفت وتنازلت عن قناعاتي، قليلاً، قلت لنفسي: إنه مقال يتيم. لن يتكرر إلا بعد عام. سيصفح لي القراء ولا ريب، وأنا أذكر رحيل حبيبتي أمي شيخة. *رئيس تحرير صحيفة الاقتصادية ومجلة الرجل