«سأل الرجل عبدالله بن عمر وهو يقول: «أمي عجوز لا تقوى على الحراك، وأصبحت أحملها إلى كل مكان، حتى إنها لتقضي حاجتها عليّ وأنا أحملها، لا تملك من أمرها شيئاً. أتراني قد أديت حقها؟»، فأجابه ابن عمر: «ولا بطلقة واحدة من ولادتك. وإن كنت تفعل هذا وتتمنى لها الموت حتى ترتاح أنت، فقد كنت تفعلها وأنت صغير وكانت تتمنى لك الحياة». وهذه هي الأم العطاء التي لا تملك أن تنفصل عن ابنها وفطرتها بعد أن ضمه رحمها. هذه الأم هي التي صارت منفية عن أرضها، لاجئة في أرض الأغراب أو قل في بحرهم. فلم تكد تصل اليابسة هاربة بقارب من تركيا إلى اليونان حتى استقبلها الشرطي اليوناني ورمى برضيعها في البحر. فلحقت وراءه لعلها تنقذه فابتلعهما الماء معاً بعد أن ضاقت عليهما الأرض بما رحبت. فإن كنت قليل الحظ في الاسم والكرسي والمال فلا أب لك في دنيا لا تقدّم لاعتبارات أقل. فإذا وصلك أن ألم المخاض لا يعدله عذاب، فاعلم أن فراق الابن هو أشد وطأة على الأم من كل آلام الحياة. ولا أتعس من أم تدفن ابنها! وقد فعلت أمهات العراق وسورية حتى انفطرت أكبادهن، ولا تزال تنفطر. بول هنري وكان من علماء بلجيكا وأحد نوابها حضرت أمه جلسة لمجلس النواب، فبدأ خطابه كالآتي: «أمي، سيداتي سادتي....». والتاجر السعودي أحمد بن ثالبة من خميس مشيط فاجأ الحضور بوالدته المسنة بأعوامها السبعين وقد أتت لتقص شريط افتتاح أحد فروعه التجارية، ثم تعود أدراجها آمنة مطمئنة على ابنها وفلزة روحها. وهو التقدير المعنوي الذي سبقه افتتاح الأم لأول مشروع تجاري لابنها قبل 15 عاماً كما شريط اليوم. كأقل لمحة عرفان بالجميل لأم ضحت بغلاوة العمر، لتتفرغ لتربية صغارها بعد وفاة معيلهم وأبيهم. وبسببها تداولنا اسم ابنها. الأم التي ما أن تأتي زوجة الابن حتى تناصبها التحدي على قلب واهتمام ابنها. لا تعلم جهلاً منها وتسرّعاً أن علاقة زوجها بأمه لا يمكن أن تنافس أو تقارن بالعلاقات الإنسانية الأخرى أياً كانت. بل إن الزوجة لو فكرت بعيداً لرأت نفسها وهي تعيش الموقف بعينه مع زوجة ابنها في مُقْبلات السنين. ولكن الزوجة لن تعي ذلك ما لم تلد ويصبح ابنها في عمر الزواج. فالأم هي ظل الابن ولا يفارقه طالما أن من في النور هو ابنها. فتدفعه وتشجعه وتنهره وترفعه، فإذا وصل إلى قمة جبله أعلن نصره وهي لا تزال في الظل تبارك له بدموعها. فمن للإنسان إن فقد ظله؟ ومن يدعو له إن غابت عن دنياه من تدعو له؟ وليتخيل القارئ مجرد تخيّل قاتم أن مكالمته مع أمه هي الأخيرة، أو أن الزيارة التي يشاهد فيها وجهها لن تمنحه الدنيا فرصة أخرى ليكررها لموته أو رحيلها. فكيف يحب أن يودعها بضمير مرتاح؟ وهذا بالضبط ما ينبغي أن يكون عليه شعور الابن تجاه أمه في كل مرة. أطال الله في عمر أمومة لم تشوّهها عاديات الأيام ومغرياتها. أمّا في البرد القارس فلندعُ لأمهات الملاجئ وأبنائهن يموتون بين أيديهن من الجوع والمرض والصقيع ينخر في العظام في عالم غير مبالٍ إلا بالاقتتال على مكاسبه. ولا أفظع من شعور أم قلَّت حيلتها تجاه أبنائها. فتجري هنا وتهرول هناك لعل الله يمن بزمزم أخرى. وكلما وجدت بئرها دفنها المجرم بجزمته. ومن سراب إلى سراب. فآه من وجع أم لا يقدر عليه سوى من كان في مقام أمومتها. ومن تراه يكون غيرها؟ يقول الإلكسندر الكبير: «ليس خوفي من جيش من الأسود تقودهم نعجة، ولكن من نعاج يقودها أسد». فما ذنب الأم السورية في خيمتها إن ضاعت الأسود أو تشبّهت النعجة بأسد؟ ومتى انتظر البرد والفقر حتى يكبر الشبل ويصبح أسداً حقيقياً ويدافع عن أمه؟ ولن تجد رجلاً يقدِّر أمه ويمتهن أمهات غيره إلا أن تكون أمه ربته على الامتهان. كاتبة سعودية [email protected]