الوطن - السعودية يوم الثلاثاء الماضي 14 يناير مثل يوما تاريخيا في تطور شبكة الإنترنت، حيث خسرت شركات الإنترنت ما سمته الصحف ب"المعركة الكبرى" مع شركات الاتصالات أمام المحكمة الفدرالية الأميركية، التي حكمت لصالح شركات الاتصالات، بشكل سيغير شبكة الإنترنت بشكلها الجميل كما نعرفه إلى الأبد. القصة تتعلق بمفهوم "الإنترنت المفتوح" الذي بدأ مع بداية شبكة الإنترنت وأكدته أنظمة هيئة الاتصالات الفدرالية في عام 2010. مبادئ الإنترنت المفتوح تمنع شركات الاتصالات ومقدمي خدمات الإنترنت من دعم موقع إنترنت ما على حساب موقع آخر. عندما تدخل إلى الإنترنت، فأنت بعد أن تدفع الرسوم الخاصة بالخدمة، تتصفح ما تريد من المواقع دون أن يكون لدى الشركات المقدمة للخدمة أي قدرة من الناحية القانونية على منعك من بعض المواقع أو إجبارك على مواقع أو تطبيقات أخرى. هذا الأمر نفسه مرتبط بتطبيقات الموبايل، فالتطبيقات تعامل على قدم المساواة، ولا شيء يفرق بينها إلا قدرتها على كسب الجمهور. هذا كله تغير الأسبوع الماضي. منذ سنوات وشركات الاتصالات في أميركا تحاول القضاء على "الإنترنت المفتوح" أو ما يسمى ب"حيادية الإنترنت" (Net Neutrality)، وتريد أن تكون لها القدرة على فرض رسوم على المواقع التي تريد الوصول إلى الجمهور ورسوم على الجمهور الذي يريد الوصول إلى كل المواقع. عمليا شركات الاتصالات ومقدمو خدمة الإنترنت صاروا يستطيعون التدخل في المحتوى وما يشاهده الجمهور. هذا يتم عمليا بطريقتين: الأولى ما يسمى بالطريق السريع (Fast Lane)، حيث يتم إعطاء ميزة لبعض المواقع بالوصول السريع إلى الجمهور بينما المواقع الأخرى ستصبح بطيئة جدا ونصيبها من الوصول إلى الجمهور أقل بكثير. والثانية هي جعل بعض المواقع مجانية لأنها تدفع لشركات الاتصالات، بمعنى يمكنك استهلاكها بمقابل مخفض جدا، بينما باقي المواقع تدفع الكثير من المال لتحقيق ذلك. مثلا قد تعرض عليك شركة الاتصالات خدمة الإنترنت بسعر مخفض جدا إذا كنت ستسهلك مجموعة محدودة جدا من المواقع، بينما تحتاج لدفع سعر أكبر بكثير إذا أردت أن تتصفح كل المواقع بشكل مفتوح. لماذا يعني هذا نهاية الإنترنت الجميل؟ أولا: لأن هذا يعني أن المواقع الشخصية والمواقع الصغيرة والشركات المبتدئة والمواقع التي لا تحبها شركات الاتصالات لأي سبب من الأسباب ستجلس في زاوية ضيقة لتصل فقط إلى نسبة محدودة من الجمهور. هذا يعني باختصار نهاية ثورة الإنترنت كما عرفها الناس، شباب في مطلع مسيرتهم المهنية يطلقون موقعا جديدا والناس تشاهده وتعجب به ثم يتطور تدريجيا، ويعني عودة السيطرة للشركات الكبرى بعد أن استطاع الإنترنت المفتوح الضغط عليها لعقدين من الزمن (1993-2013). ثانيا: لأن هذا يعني أن المواقع غير المرغوبة (سياسيا أو لدى رجال الأعمال والشركات الكبرى) يمكنها أن تمنع ببساطة ضمن عملية التحكم هذه دون أن يستطيع الجمهور الاعتراض على ذلك. يوتيوب مثل إزعاجا لقنوات التلفزيون، وتويتر مثل إزعاجا لكثير من المؤسسات السياسية والخاصة، وغيره كثير من المواقع التي تقود عملية تغيير الحياة من حولنا. كل هذا سيتم من خلال شركات الاتصالات التي ستتحالف مع أعداء هذا التغيير لتحقيق الربح المادي. ثالثا: شركات الاتصالات سيمكنها وضع المواقع التي تملكها على "الطريق السريع"، مما يعني أنها ستحصل على ميزة خاصة لهذه المواقع من حيث عدد الزيارات والإعلانات والسيطرة على المعلومات، مما سيزيد من قدرتها على الاحتكار والتأثير على الرأي العام. لقد حاربت شركات الاتصالات الأميركية بشكل ضخم من أجل هذه القوانين وكسبت المعركة، لكن الأثر لن يكون خاصا بأميركا بل بالعالم كله، ودول العالم العربي ستكون من أول المناطق تأثرا، وأنا شخصيا أعرف أن عددا كبيرا من شركات الاتصالات العربية اشترت الأنظمة التي تتحكم بسرعة الإنترنت حسب العنوان الذي تطلبه، وبدأ بعضها تطبيقه منذ العام الماضي على استحياء من خلال تخفيف سرعة المواقع التي تمثل ضغطا على شبكة الجيل الثالث والرابع (مثل موقع يوتيوب). هذا القرار لا رجعة عنه، لأنه منذ هذا الأسبوع ستبدأ شركات الاتصالات بتوقيع عقود ضخمة، لا يمكن بسهولة إلغاؤها، وسيبدأ تصنيع البرامج والأجهزة التي تحقق هذا الغرض بحكم أن السوق الأميركي الضخم سيشجع على ذلك، ولأن دولا كثيرة حول العالم مثل الصين ستستمع بتطبيق هذه الأنظمة دون أن تتلقى أي نقد من أميركا وجمعيات حقوق الإنسان كما كان في السابق. قرار المحكمة الفدرالية يلزم شركات الاتصالات بالكشف للجمهور عن المواقع التي يتم تسريعها والمواقع التي يتم حجبها أو وضعها على الطريق البطيء، ولكن هذا الإلزام لن يحصل في الدول الأخرى، بحكم عدم توفر البيئة القانونية بكل أسف. هناك فيلم وثائقي على هذا الموقع TheInternetMustGo.com يشرح الكثير من الأبعاد السلبية والعميقة لهذه القرارات. شبكة الإنترنت ستتحول إلى غابة يحكمها الكبار فقط..!