يثير تحوّل موقع «يوتيوب» الى البث التلفزيوني المباشر عبر الإنترنت، نقاشاً واسعاً في مسار الاعلام الرقمي، خصوصاً في ظل تنامي ظاهرة التلاقي الرقمي من جهة، وتشابك المثلث المعقد من العلاقات بين الأفراد والشركات العملاقة والحكومات في عصر المعلوماتية والاتصالات من جهة ثانية. وكذلك أعادت هذه الخطوة الضخمة تجديد النقاش في الاعلام الرقمي ومساره وأشكاله ونضوجه، إضافة الى اسئلة عن وصول هذا الاعلام الى مرحلة النضج، بمعنى الهيئة التي ستعطيه شكله الرئيسي العام. وبعد ظواهر مثل المجتمعات الافتراضية والمُدوّنات والشبكات الاجتماعية، تأتي هذه الخطوة من «يوتيوب» لتشير الى أن الأمور لم تنجلِ بعد في هذا الوسيط الفوّار. وكذلك أعادت هذه الخطوة النقاش في المحتوى، وتالياً في الشركات العملاقة في الميديا، و «التنازع» في امتلاك القوة الإعلامية بين أفراد المجتمعات المعاصرة وعملاقة الميديا. وتدخل الحكومات على خط هذا التنازع، لترسم مثلاً شائكاً ومتحركاً بقوة. ويلاحظ أن التقنية الرقمية بحد ذاتها لا تمثّل عنصراً حاسماً في هذا التشابك، على رغم الخصوصية التي تتمتع بها هذه التقنية في مُركّب المعلوماتية والاتصالات، الذي بات أساساً في نسيج الحياة اليومية المعاصرة. «يوتيوب» في بث مباشر. لنصحح العبارة. إذ بات البث التلفزيوني الآتي من الشركات العملاقة في التلفزة، حاضراً عبر موقع «يوتيوب» على شبكة الإنترنت. لنجرب شيئاً من الفكاهة. بدل شعار «بثّ نفسك» الذي رفعه هذا الموقع منذ انطلاقته في العام 2005، وهو معنى اسمه بالانكليزية You tube، صار الشعار «شركات التلفزة تبثّ نفسها». لعلها ليست فكاهة، بل تبدو أقرب الى الانقلاب، مع الاعتذار عن المعنى السيئ لهذه الكلمة عربياً، وخصوصاً لبنانياً في الوقت الراهن. قبل هذه الخطوة، كان ظل أفراد العصر الالكتروني معتمداً على ذلك الموقع، بل أنه أعطى «يوتيوب» هويته. حتى صفحة الاستقبال في الموقع تعرّف عن نفسها بالإشارة الى أن «يوتيوب» مساحة لتبادل الأشرطة التي يصنعها الافراد بأنفسهم ويبثونها عبر الانترنت. الارجح ان ذلك أصبح شيئاً من الماضي. لم يحضر التلفزيون فجأة الى الموقع. تمكن ملاحظة ان اسم الموقع يتضمن كلمة «تيوب» Tube التي ترجع الى بدايات التلفزيون، لأنها تشير الى الأداة التي كانت تضخ الإلكترونات لتصبح صوراً على الشاشة. بشيء من الطرافة، من المستطاع ترجمة اسم الموقع ب «تلفِز نفسك»! وبقدر أكبر من الجدية، يمكن القول إن التلفزة سارت بتؤدة الى «يوتيوب»، قبل ان تفرد ذراعها القوية في مساحاته الافتراضية. المفارقة ان الجمهور الواسع من الأفراد هم الذين أحضروا التلفزة الى هذا الموقع. فبوجه عام، تنقسم المواد المتوافرة على «يوتيوب» الى نوعين: أشرطة يصنعها الجمهور بنفسه (عبر الخليوي والكاميرات الرقمية المتنوعة)، ومواد يقتبسها الأفراد من التلفزيون، ويعدّلونها أحياناً، ثم يبثونها عبر الموقع. ووصل زخم النوع الثاني (التلفزيوني) من المواد المرئية - المسموعة، الى حدّ ان البعض لم يتردد في وصف «يوتيوب» بأنه الارشيف الحيّ للتلفزة. صنعت مواد التلفزة ظواهر متنوّعة. إذ أعطت البريطانية سوزان بويل مثالاً على حضور التلفزيون القوي والمستمر في «يوتيوب». واشتهرت تلك المغنية الأوبرالية الصوت، بفضل إعادة بث الجمهور لأشرطة عن غنائها في برنامج «بريطانيون لديهم موهبة»، عبر موقع «يوتيوب». وفي مثال آخر، استند صعود باراك أوباما وظاهرته الى تواجده الكثيف على «يوتيوب». وبعد انتخابه، ألف الرئيس الشاب على استخدام «يوتيوب» وكأنه تلفزيون رئاسي يبث عالمياً. إذ درج أوباما على وضع أشرطة عن مسائل سياسية حساسة (إيران، خطة الإنعاش الاقتصادي، معاهدة الصواريخ النووية...) على الموقع، كي يراها الجمهور الالكتروني، وكلّ بحسب وقته وميوله. لنلاحظ ان تلك الأشرطة عينها، كانت تبث أيضاً عبر محطات التلفزة، وغالباً بعد ظهورها على «يوتيوب». هل أنها صدفة ان يغيّر «يوتيوب» شكله، ويسير نحو شكل إعلامي مبتكر وانتقالي، في ظل رئاسة أوباما، بمعانيها المتعددة؟ مجرد سؤال. لن يصنع «يوتيوب» المحتوى، بل سيجري استخدامه منصة رقمية ل «إعادة» بث برامج تلفزيونية تأتي من مجموعة شركات الميديا المرئية - المسموعة، على رغم ان تلك الإعادة ستكون فورية، بمعنى البث المباشر. ولنتذكر ان عدد زوار الموقع أخيراً وصل الى بليوني شخص يومياً! ويبدو ان ذلك رقم أسال لعاب الشركات العملاقة. ثمة جمهور ضخم يمكن الوصول إليه عبر «يوتيوب»، مع ملاحظة ان مشاهدة تلك المواد ستكون مدفوعة. ولنتذكر أيضاً ان تقنية بث مواد التلفزة عبر الانترنت موجودة فعلياً. المحتوى وإعلام متحوّل الارجح ان الشيء الاساسي في الاتفاق يتعلق بالمصالح. ولا يمنع ذلك من القول إن ظاهرة إعلامية ضخمة متداخلة بقوة مع التقنية، ظهرت من تلاقي المصالح. ثمة مثال شبيه يأتي من الخليوي. إذ لا تمثّل الرسائل النصيّة انجازاً تقنياً كبيراً، لكنها أحدثت ظاهرة ضخمة في الاتصالات المتطوّرة، بفضل إقبال الجمهور بشدة عليها. لم تلبث التقنية ان تأثّرت أيضاً، فتطوّرت الرسائل النصية لتصبح رسائل متعددة الوسائط، ومهّد ذلك لخطوة ضخمة تمثّلت في بث الصور مباشرة عبر الخليوي، والتقطها جهاز «أي فون» ليحقق اختراقاً كبيراً. يصلح هذا المثال للفت النظر الى المدى الكبير الذي يؤثر به الجمهور على التقنية. بالعودة الى موضوع «يوتيوب»، يظهر أن المسألة ما زالت في بدايتها، لكنها تدفع للتفكير بأن إعلاماً من نوع مختلف بات وشيك الظهور. تعطي خطوة الحضور المباشر التلفزة المتطورة، على موقع يلعب دور الارشيف الرقمي الحيّ للتلفزة من جهة، ويؤدي دور المساحة المرئية - المسموعة المفتوحة للجمهور من جهة ثانية، إنطباعاً بأن تجديداً كبيراً قد حصل، وأنه مرحلة انتقالية لإعلام قد لا يتأخر ظهوره، وربما يصعب الآن إعطاؤه إسماً أو هيئة أو ملامح مميّزة. لنفكر. ماذا لو قرر «يوتيوب» خوض مغامرة صناعة المحتوى الاعلامي البصري، بمعنى صنع برامج ومسلسلات ونشرات أخبار ومواد ترفيه وبرامج متخصصة وغيرها؟ كيف سيوصف ذلك الموقع حينها؟ كيف سيتعامل مع مسألة «اللاوقت» السائد على الإنترنت، بمعنى أن مواد الانترنت تبث من دون ضرورة تطلب أن يكون هذا البث في وقت معيّن، مثل حال التلفزيون والراديو؟ هل يعطيه هذا «اللاوقت» ميزة، بحيث أنه سيعتمد عليها أساساً في صناعة محتواها، بنفس المعنى الذي يعتمد فيه التلفزيون والراديو على الوقت كأساس في عمله؟ ربما يتوجب الانتظار، مع الكثير من التنبّه أيضاً. في هذا المعنى، يظهر تسطّح كبير في الرؤية التي ترى أن الوقت الواحد هو العائق الوحيد أمام نضوج الإنترنت كإعلام مميّز، وهي الرؤية التي تبنّاها مفكر من وزن الفرنسي دومينيك فالتون في كتابه «التلفزيون في السلطة» La television au pouvoir، الذي صدر في مطلع الألفية الثالثة. بهذه السرعة، تبدو الإنترنت ظاهرة مربكة ومحيّرة ومتعددة الإمكانات، بحيث أن تصيب بالعجز حتى الرؤى الأكثر تبصراً بأمورها! التلاقي الرقمي والمُلكية الفكرية تحمل خطوة بثّ التلفزيون عبر «يوتيوب» بصمات تقنية متنوّعة، لعل أبرزها تأتي من ظاهرة التلاقي الرقمي Digital Convergence، التي تبلورت خلال العقد الأول من القرن 21. وبالاختصار، تشير الظاهرة الى التقارب تقنياً بين الأدوات المتنوعة في المعلوماتية والاتصالات. إذ يحمل الخليوي كثيراً من صفات الكومبيوتر وقدراته، كما اقتبس التلفزيون الرقمي صفات مثل القدرة على تخزين البرامج والتعامل مع الانترنت وتلقي النصوص والتعامل مع كاميرا الويب في نقل الاتصالات المرئية - المسموعة وغيرها. وكذلك تؤدي شبكة الويب، خصوصاً الانترنت السريعة بالحزمة العريضة، دوراً كبيراً في ظاهرة التلاقي الرقمي. وخلال رمضان المنصرم، شهدت التلفزة العربية ظاهرة جمعت بين التلاقي الرقمي ومسألة «اللاوقت» في الإعلام الرقمي. إذ عمدت بعض الأقنية الفضائية الى بث بعض المسلسلات الى الخليوي، بطريقة تُمكّن من مشاهدة الحلقة على الهاتف المحمول قبل عرضها على الشاشة. واستطراداً، فإن الشركات لم تكن تنافس نفسها ولا تسعى لإفساد أرباحها من مسلسلاتها، بل استعملت هذه الطريقة للترويج لمسلسلاتها، وللوصول الى جمهور مغاير لجمهور التلفزيون. الأرجح ان تُرهق خطوة «يوتيوب» الأشكال الإعلامية التي تبلورت لحد الآن على الإنترنت، مثل المواقع الإعلامية والمُدوّنات الإلكترونية «بلوغز» والمواقع الإجتماعية مثل «فايسبوك». والحق ان هذين الشكلين الأخيرين يخوضان منافسة «مضمرة» بينهما، تحتاج الى نقاش. وكذلك تميل كثير من البلوغز الى تبني الاسلوب البصري، بمعنى أنها تعتمد المواد المرئية - المسموعة أساساً لها. ويُسمى هذا النوع من المُدوّنات «في لوغ» V Log. كيف ستتعامل هذه الأشكال الاعلامية مع نمط إعلامي آخذ في التبلوّر؟ هل يمتصّ الجديد القديم، بمعنى أن يعتمد النمط الآخذ في التبلوّر في «يوتيوب» الى إدراج البلوغز في ثناياه، كما تفعل بعض الصحف الكبرى بالنسبة للمُدوّنات الالكترونية مثلاً؟ وكيف يكون الحال بالنسبة لموقع مثل «فايسبوك»؟ هل سيلجأ الى خطوة مماثلة لما فعله «يوتيوب»، استناداً الى جمهوره الواسع أيضاً، فيدخل في منافسة معه، وبالتالي يؤثر على الشكل المقبل من الاعلام الالكتروني؟ يصعب عدم ملاحظة ان اتفاقية «يوتيوب» مع شركات في الميديا المتلفزة، تبدو وكأنها أعادت الجمهور الى دور المتلقي، عبر شاشة الإنترنت. وفي التجربة، أثبت الجمهور أنه قادر على التدخّل، وأنه لا يقبل بسهولة التخلي عن الاسلوب التفاعلي في التعامل مع الاعلام المعاصر. ويضيف هذا بعداً آخر الى هذه المسألة. وماذا عن مُلكية المحتوى؟ على «يوتيوب» حاضراً، لا تبدو هذه مشكلة عويصة. وتتراكم فيه بلايين الاشرطة المقتبسة من التلفزة. ومع دخول شركات تلفزيونية الى الموقع، ربما تصبح مسألة ملكية المحتوى أكثر حدّة. ولكنها، قد تصبح أقل أيضاً! هناك تجربة شركة «روتانا» مثلاً، التي عمدت الى جعل أشرطة الفيديو كليب متاحة، بعد أن هوّلت على الجمهور طويلاً بمسألة الأشرطة الأصيلة (شعار «عالأصل دور»...) واستعملت داعية مثل عمرو خالد للترويج لأمر لا يخدم سوى أرباحها. ثم غيّرت رأيها. واختفت الاعلانات التي كانت تصر على رؤية متشددة للملكية الفكرية. واختفى وجه عمرو خالد مُنبّهاً، في أحد الإعلانات، الى قدرة القطة على تمييز مسألة المُلكية! وفي هذا المعنى، باتت التلفزة وسيلة للترويج لأشرطة الفيديو كليب، إضافة الى أنها مصدر للأرباح التي تأتي من سيل الاعلانات. هل نشهد شيئاً مشابهاً في تجربة «يوتيوب» مع التلفزة؟ هل يدعم هذا التحوّل في «يوتيوب» ممارسة الحرية الالكترونية في الثقافة البصرية، أم يقع تحت وطأة السطوة المتعاظمة للمفهوم المتشدد في المُلكية الفكرية التي تمارسه الشركات الكبرى، بمؤازرة من قوى عظمى، حاضراً، كحال الانترنت؟ بديهي القول ان خطوة «يوتيوب» ذكّرت بالمحاولات الكثيرة، التي لم تتبلور لحد الآن، لبلورة تلفزيون الإنترنت. والحق أن شركة مايكروسوفت العملاقة، كانت أول من بادر الى محاولة بلورة هذا الشكل في الاعلام الرقمي. وعقدت الرهان على دورة «أتلانتا» (1996) للألعاب الأولمبية، لتكون نقطة انطلاق لهذه الظاهرة. ولم يتكلل هذا المسعى بالنجاح. يبقى ان النقاش أعلاه استثنى عمداً الحديث عن المواقع الاعلامية على الانترنت، التي تشمل مواقع الصحف والأقنية الفضائية الملتفزة والراديو وغيرها. وغني عن القول ان المواقع الاعلامية على الإنترنت ربما كانت الأكثر تأثراً بالخطوة التي أنجزها «يوتيوب». لكن هذه المسألة حسّاسة تماماً، إذ تطاول أحد الأعصاب الأساسية في الانترنت، ما يعني أنها تحتاج الى نقاش عميق.