يعد المفكر الجزائري مالك بن نبي في المجال العربي والإسلامي المعاصر، أحد أكثر المفكرين هما واهتماما بفكرة الحضارة، ويكفي النظر إلى كتاباته ومؤلفاته للتثبت بسهولة من هذه الملاحظة، التي لا يكاد يختلف عليها أحد، وذلك لشدة ظهورها ووضوحها، بشكل يغني عن الحاجة للبرهنة عليها، أو الجدل والنزاع بشأنها. وما يؤكد هذه الملاحظة ويثبتها، أن مالك بن نبي أراد على ما يبدو أن يقدم نفسه بهذه الصفة، ويعرف بها، وتعمد الإشارة المستمرة إليها، حتى أنه اتخذ منها عنوانا ناظما لجميع مؤلفاته، التي عرفت وتأطرت بعنوان: (مشكلات الحضارة). ولعل هذه أول محاولة على ما أعلم، يؤطر فيها مؤلف جميع مؤلفاته بعنوان واحد، ثنائي التركيب، وكأن ابن نبي أراد القول إن جميع كتاباته ومؤلفاته على تنوع عناوينها، وتعدد قضاياها وموضوعاتها، وتعاقب أزمنتها، واختلاف أمكنة تأليفها ونشرها، مع ذلك فإنها تلتقي وتشترك في إطار فلسفة جامعة لها، هي مشكلات الحضارة. ومن أكثر النصوص التي كشف فيها ابن نبي عن علاقته بفكرة الحضارة، ومدى تمسكه بها، وكيف أنها تمثل الفكرة المركزية في خطابه الفكري ومشروعه الإصلاحي، النص الذي يتحدث فيه عن حاله بقوله: إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن، هي مشكلة الحضارة. المشكلة التي يرى فيها ابن نبي أنها تمثل أم المشكلات في العالم الإسلامي، وحسب قوله إن المشكلة الرئيسية بل أم المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الإسلامية التي خرجت من حلبة التاريخ لدورة حضارية جديدة، إذا سلمنا بهذه الحقائق، يبقى علينا أن نفكر في مصير العالم الإسلامي، وكيف يمكن لنا الدخول في دورة حضارية جديدة، هذه القضية باختصار، هي التي وجهت لها كل مجهوداتي منذ ثلاثين سنة. وبحكم هذه العلاقة، جرى وصف ابن نبي بفيلسوف الحضارة، الوصف الذي ورد وتكرر على لسان عدد من الكتاب والباحثين في مشرق العالم العربي ومغربه، ومازال يتردد ويتكرر في عدد من الكتابات والمؤلفات. ومن الواضح، أن هذا الوصف ليس بسيطا أو عاديا على الإطلاق، وليس من نمط الأوصاف التي يمكن التساهل أو التسامح في إطلاقها، ونجد من الصعوبة في المجال العربي المعاصر إطلاق هذا النمط من الأوصاف على أحد، مهما كانت شهرته ومنزلته الفكرية والثقافية، مع ذلك سرى هذا الوصف على ابن نبي، ولم يجد اعتراضا أو تجريحا من أحد. ويتصل بهذا الوصف تصديقا وتفسيرا له، اعتبار البعض أن ابن نبي يعد أحد أبرز المفكرين العرب المعاصرين، الذين اعتنوا بفكرة الحضارة منذ ابن خلدون في القرن الثامن ومطلع القرن التاسع الهجري، وأشار إلى هذا الرأي الدكتور فهمي جدعان الذي يرى أن مالك بن نبي هو أبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون. ويطابق هذا الرأي تماما، ما أشار إليه الدكتور سليمان الخطيب الذي بدا له بوضوح حسب قوله: إن مالك بن نبي هو أبرز مفكر إسلامي في العصر الحديث، عنى بقضية الحضارة، بعد أن عنى بها ابن خلدون في سالف الزمان. وهذا الرأي بقدر ما يحسب إلى ابن نبي ويضاف إلى رصيده الفكري، فإنه من وجه آخر يحسب على الفكر العربي والإسلامي الذي تقلص في ساحته وتراجعت العناية والاهتمام بفكرة الحضارة، وذلك من جهة المستوى الكمي والكيفي الذي حصل من قبل عند ابن خلدون في الأزمنة الوسيطة، وتجدد في الأزمنة الحديثة مع ابن نبي. والمفارقة المدهشة في هذا الجانب، هو الفاصل التاريخي الطويل ما بين ابن خلدون وابن نبي، والذي يقدر بستة قرون، وهي الفترة التي يؤرخ لها في الأدبيات العربية والإسلامية بالفترة التي أصيب فيها الفكر الإسلامي بحالة من التراجع والجمود.