مفهوم الفتوى قبل شيوع دكاكين الفتاوى كان يحمل قيمة متعالية لا يتناوشها غير الأفراد الذين استكملوا المشروطية العلمية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها من الشروط السامية المؤهلة لاجتراح رواقات الفتيا التي هي إيقونة دينية تنتظم خلفها العلاقة الدنيوية، ويأخذ مقام الفتيا هالته وقيمته وتعاليه من حيث هو مسؤولية ومهمة دينية مقدسة، ذلك أن المفتي يمارس دور الوسيط والشارح المعرفي ما بين الروحي «الدين» والزمني «الدنيا»، وهنا تكون المفارقة في خطورة عمل ووظيفة المفتي الذي يتولى توجيه النص الديني لمعالجة الإشكال الدنيوي البشري وتنظيمه، ولعل عنوان كتاب ابن قيم الجوزية، رحمه الله، «إعلام الموقعين عن رب العالمين» يشارف أن يعطي عنواناً وتقريباً لدور المفتي. حتى زمن ليس بالبعيد، وتحديداً مع صعود الإسلام الحركي، بدأت قيمة الفتوى تتآكل وتتراجع لتتحول إلى وظيفة مشرعة لكثير ممن لا يحملون مؤهلاً وشرط الفتوى، وتحول وصف «شيخ/ عالم/ مفتٍ» ميسر ومتاح لكل من أخذ طرفاً من العلم الشرعي حتى وإن لم يثن ركبتيه طويلاً في دور العلم والشريعة. الإشكال الكبير في مسألة التصدر للفتوى دونما مشروطية مكتمله لبلوغ هذا الموقع تكمن في إشكالات منهجية عدة: أولاً: تعاطي المفتين مع الفقه من الزاوية المذهبية الضيقة التي لا تعتد بالمختلف الفقهي ما لم يكن صادراً عن مدرستها العتيقة أو أحد رموزها، وذلك ما كلس الفقه ومعه الفتوى الدينية من خلال الأحادية المنابذة للاجتهاد وروح الدين المتسامحة، ولعل قول الإمام أحمد بن حنبل الذي تنتسب له المدرسة الحنبلية فقهاً وحتى اعتقاداً، كما نقل عنه الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول: «دعوا الناس يتخففوا في مذاهب الناس...» تناقض مذهبية المذهبيين ومنهم أتباع ابن حنبل «الحنابلة»، تلك المذهبية الضيقة في الفتوى جعلت المفتين يدخلون في تقديس وإجلال مذهبيتهم لا يتجاوزونها تجاه سعة الدين والاجتهاد مضاعفين على حرج الناس حرجاً ومعرة ورهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم لم يكتبها الله. ثانياً: يرتج على الناس اليوم ما بين أطياف المفتين، إذ تحول الكثير إلى مفتين عبر مهيعة التصدر الديني مهما كان سبيل ذلك، وللتوضيح أكثر: بدأ يختلط على الناس ماهية المفتي والعالم والدخيل على العلم الشرعي والفتيا، إذ تحول أرهاط إلى مسمى «شيخ» ممن لا يرقون لمرحلة استحقاق توشح هذا المسمى فمثلاً «الداعية/ الواعظ/ القصاص والحكواتي/ القارئ - مفرد قراء/ الحفاظ... وغيرهم» تحولوا لمشايخ متربعين للفتوى، وذلك ما جعل الناس يعدون كل متسم بالمشيخة شيخاً مفتياً وإن يكن أبعد ما يكون عن مقام وجلالة الفتيا. ثالثاً: من الإشكاليات التي أحدثت اللبس في اتزان وروية وعقلانية الفتيا اعتبار المحدثين فقهاء ومفتين، وذلك ما جعل الفقه والفتوى تميل ناحية الظاهرية السطحية التي تعتمد المنطوق ولا تحفر في الدلالات الثاوية في المفهوم، وقاعدة «إذا صح الحديث فهو مذهبي» تشي بمدى محدودية أبعاد وعي ورؤية المحدث الذي يرى أن صحة الحديث تحمل قاطعية الحكم في أي مسألة شرعية دونما استشراف لضوابط استصدار الفتوى المرعية، بخلاف الفقيه الذي يستبطن الحديث، كما يستلهم المسألة عبر مفاوز الفهم والعقل ومشروطيات العقل الفقهي قبل سك الفتوى. رابعاً: من مخاطر وإشكالات الفتوى في هذا العصر التساهل الخطر والممض في مسألة التكفير والتبديع والتفسيق والزندقة التي قد توصل للانسياق نحو هدر الدم واستباحة حياة الآخرين الذين اشتملتهم تلك الفتاوى المنتهية بإصدار صك الردة أحياناً، وهذا ما نطالعه اليوم في كثير من فتاوى الموتورين الذين لا يرقبون في الحريات والأرواح ديناً ولا عقلاً... حتى تحولت مفردة كمفردة «زنديق» تدور على الألسنة من السوقة... وفي «هاشتاقات تويتر» الخبر اليقين. خامساً: تحول كثير من نقلة الفتاوى إلى فقهاء ومزاولين لمهنة الفتوى مع أن حقيقتهم نسّاخ ونقلة فتاوى ناجزة لم يدركوا ظرفية تشكلها وزمكانيتها وأحوال تنزيلها الأول، وإنما يعيدون تنزيلها على الناس على أوهانها من دون ممايزة للأحوال ما بين الفتوى المنقولة وحوافها ولا الحال التي يتجهون لتنزيلها عليها ولا يدل ذلك إلا على أننا أمام مرحلي وحفاظ فتاوى «ثلاجات فتاوى». سادساً: شروط التربع على أريكة الفتوى في تراثنا تمر عبر إحراق مراحل علمية غير حفظ النصوص التأسيسية، وعلى سبيل المثال الإلمام في «أصول وقواعد الفقه/ علل الحديث... وغيرها من مقدمات لطالب علم الفقه» التي لا يجوز للمفتي أن يفتي من دون أن يكون استلهمها حتى يكون متمكناً من الإحاطة بالمسألة الفقهية، بحسب القواعد العلمية التي تعطي التأصيل العقلاني المنطقي للفتوى... لكن مفتي الراهن يكتفون بحفظ النصوص التأسيسية وشيء من دروس الفقه التقليدي المجرد من القواعد والأصول من دون إلمام بالمكون الفقهي العقلاني «أصول وقواعد الفقه... وغيرها من مقدمات الفقه». سابعاً: من المثير في هذا العصر تكاثر المفتون حدثاء الأسنان الذين تعجلوا التمشيخ والفتيا... لست أعتبر هنا حداثة السن مشكلة مطردة دائما، لكن ولأن المشكلة تحولت إلى شبه ظاهرة شرعية كان هنا تساؤلي، ولعل قارئي قد يأتيني بنماذج من السابقين الذين تصدروا للفتيا وهم حدثاء سن، وأتفق معهم في ذلك، لكن أعود لتبيان مرادي وهو أن مشكلتي في تكاثف وتكاثر هذه الفئة «تمشيخ الشباب»... الأمر الآخر أن الشاب لا يزال في تحول إدراكي ومعرفي وتلك هي «حُمّى الشباب»، ذلك أن التحول الذهني العميق لدى الشاب كالحمى التي لا تجعل رأيه قاراً وعميقاً ومحيطاً بهالة المسألة التي ستنتهي بفتوى. ثامناً: تحول الفتوى لبضاعة متاحة ينخرط فيها الكفء وغير الكفء، المؤهل وفاقد التأهيل، كما أصبح امتهان الفتوى مصدر تفوق «مادي/ وجاهي اجتماعي إعلامي»، وأداة ممتازة للنجومية والجماهيرية والتأثير، ولنا في واقعنا مع دعاة «توك شو» الأمثلة العريضة التي يتقاصر الحصر عنها/ وللتدليل على ذلك... كم من الشخصيات التي كانت تمتهن تخصصات غير شرعية ومتفوقة في مجالها تحولت من تخصصاتها «التطبيقية نموذجاً» وانخرطت في التمشيخ والفتوى لتلحق بركب الأضواء والوجاهة والجماهيرية، مهملة تخصصها العميق الذي كافحت لأجله طويلاً، ليس لسبب منطقي وإنما بسبب أنها وجدت أن السياق الديني الشعبي يوفر لها أكثر مما يوفره تخصصها، ويقولون في المثل الشعبي «جود السوق ولا جود البضاعة». تاسعاً: ينجفل المفتون الجدد وينساق خلفهم سواد الناس نحو تفكيك وتعكير المسلمات والبداهات التي تنضوي تحت فضاء المباحات العريض واستدعائها نحو محازة المحظورات من خلال تشقيق الأسئلة والإجابات التي تتكاثر حصة المباحات وصار الناس بسبب تقعر وغلواء المفتين لا يدعون شيئاً إلا شككوا في إباحته ليأتي خلفهم المفتون الذين لا يتورعون ولا يرعوُون عن المزايدة في دين الله وتحريم ما أحل الله عدواً بغير علم، حتى تحول المفهوم النبوي الرشيد «الإثم ما حاك في نفسك» نصاً لا معنى له في الوجدان... ولتصدق مقولة بعض كبار السن «كل شيء صار حراماً». «الحصاد»، الحكاية واضحة لا تحتاج حصاداً... الفتوى تحولت بضاعة مزجاة ووكالة من غير بواب، يلجها من شاء من دون رخصة عبور معرفية... فقط مجموعة إجازات من مشايخ (دعاة) مشاهير وشيءٍ من الترويج عبر منصة إعلامية تجارية ليتحول بعدها الفرد البسيط إلى شيخ ومفتٍ وثري غالباً.