لا أثق بنية أمريكا حين تعادي أي دولة في العالم.. ولكن يجب أن نعترف أيضا أن أمريكا لا يمكنها تأليب العالم ضد أي دولة مالم تملك (هذه الدولة) سياسة عدائية لا تشجع أحداً على مساندتها.. خذ كمثال إيران التي يصعب على العالم التعاطف معها (والوقوف بجانبها ضد أمريكا) كونها تعتمد على سياسة التهديد والوعيد والتدخل بشؤون الدول المجاورة.. واعتمادها على هذه السياسة لا يسمح لأمريكا فقط بمعاداتها والتدخل بشؤونها، بل ويعزلها بالتدريج حتى عن جيرانها وحلفائها في المنطقة.. ومنذ سمعت بالتصعيد الأخير ضد كوريا الشمالية وأنا في حالة توجس مما تريد أمريكا تمريره من خلال هذه الأزمة.. فقد يكون هدفها نشر صواريخ باترويوت دائمة في كوريا واليابان!؟.. وقد يكون تذكيرهما بأهمية الإبقاء على قواعدهم العسكرية فيها!؟.. وقد يكون ترسيخ تواجدها كشرطي لا غنى عنه في جنوب شرق آسيا!؟ وأيا كان غرض أمريكا لايمكن إنكار أن كوريا الشمالية تساندها في خلق حجة التدخل والبقاء في المنطقة - من خلال تبنيها سياسة المواجهة والتهديد لدول الجوار.. ولهذا السبب؛ يمكن اعتبار (هذه المقدمة) أول درس نستفيده من كوريا الشمالية وهو: * عدم السماح لأمريكا بخلق أي حجة للتواجد في أي منطقة في العالم.. * أما الدرس الثاني فهو أن سياسة العزلة هي الوجه المقابل لسياسة العداء.. فكوريا الشمالية دولة عزلت نفسها عن العالم وأغلقت أبوابها (حتى عن دخول وخروج المسافرين). وتصرف كهذا يثير مخاوف الآخرين ويمنعهم تلقائيا مع التعاطف مع أي دولة أو نظام يغلق أبوابه عن العالم - فالإنسان ليس فقط عدو ما يجهل، بل ويخاف مما يتم إغلاقه بإحكام!! * أما الدرس الثالث: فهو أن قمع حرية الرأي في أي مجتمع يفرز شعبا خانغا، وفكرا ساذجا، وثقافة بعيدة عن الواقع.. وهذا بالضبط ماحدث في كوريا الشمالية حيث تسبب تكميم الأفواه وقمع الأفكار في اعتقال 148 ألف مواطن والاقتصار فقط على أقوال وأفعال عائلة كييم الحاكمة.. وبمرور الأيام تحولت أقوالهم الى منهج مقدس ودستور للدولة والمجتمع (لدرجة أصبحت الجامعات هناك تمنح شهادات ماجستير ودكتوراه في أقوال الزعيم المؤسس كيم إل سونج).. * أما الدرس الرابع: فهو أن التقدم التقني وامتلاك الأسلحة النووية لا يعني تطور المجتمع أو رفاهية الشعب أو التحول لدولة عظمى.. فكوريا الشمالية حرمت شعبها من كل شيء (لدرجة ظهرت مجاعة حقيقية في منتصف التسعينات انتهت بوفاة ملايين المواطنين) من أجل صنع القنابل النووية وبناء أقوى جيش في العالم.. فالمبالغة في التسليح (وعسكرة المجتمع) يتم دائما على حساب بناء المدارس والمستشفيات والمساكن - ناهيك عن سحب القوى العاملة من المزارع والحقول، إلى الجيش ومصانع الأسلحة!! * أما الدرس الخامس فهو: أن كل الدروس السابقة تُنبئ بزوال أي نظام مشابه دون الحاجة لتدخل أمريكا أو أي قوى خارجية.. فهذا ما حدث سابقا في الاتحاد السوفييتي والصين ودول أوروبا الشرقية حيث انتهت أنظمتها الماركسية (من الداخل).. فالغليان الصامت، وعدم قدرة شعوبها على احتمال المزيد - ناهيك عن وفاة الحرس القديم - عوامل ساهمت في انهيار الأنظمة المغلقة من تلقاء ذاتها.. فمن كان يتصور مثلا إمكانية تفكك "الاتحاد السوفييتي" من تلقاء نفسه، أو تخلص الصين طواعية من نظامها الشيوعي، أو تمرد فيتنام على أفكار بول بوت الماركسية.. الحقيقة هي أن الأنظمة المغلقة (مثل الشخصيات المتشددة) أما تنقلب على ذاتها فجأة، أو تراجع نفسها عند مرحلة معينة فتصبح أكثر اعتدالا!! .. وهي على أي حال دروس مجانية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..