حين لا يعترف المريض بمرضه فكيف ستعالجه وتأخذه الى الطبيب أصلا!؟ .. كيف ستقنعه بتناول الدواء أو الخضوع لعملية جراحية قبل أن تقنعه بأنه مريض فعلا!؟ ... حسنا.. وماذا لو كان هذا المريض أمة أو مجتمعا تنخر السوسة في عظامه ومع هذا يتشمت على مجتمعات أكثر منه تقدما تستهلك ما تصنع وتأكل مما تزرع وتلبس مما تنسج؟! ماذا لو كان المريض شعبا كسولا أو مغرورا يتجاهل أخطاءه، ويرفض الاعتراف بمشاكله ويتهم كل من يخالفه بموالاة "الغرب" ودول الكفر والضلال؟ .. ماذا لو كان يكابر ويعتقد أنه شعب الله المختار أو خير أمة أخرجت للناس ويتجاهل أن "كنتم" فعل ماض ومندثر ويتقدم على "خير أمة" في الحاضر والمستقبل ... ألا يصبح في هذه الحالة مثل المريض الذي يحتضر بالتدريج دون أن يعترف بمرضه وضرورة خضوعه للعلاج!؟ .. ألا يصبح ميئوسا من شفائه لأنه يرفض أصلا فكرة "الفحص" و"التحليل" وفتح قلبه لسماعة الطبيب!؟ ... وفي المقابل قارن ذلك بأمم متقدمة أصلا ومع هذا لا تتحرج من نشر غسيلها القذر بشكل دوري ومناخ ديمقراطي وجوّ من الشفافية وحرية التعبير .. أليس مجرد اعترافها بوجود "المشكلة" أول خطوة باتجاه تصحيحها والشفاء منها وعدم تكرارها مستقبلا؟ كم مرة قرأت عن أرقام مخجلة وظواهر مقلقة ومشاكل اجتماعية خطيرة تحدث في المجتمعات الغربية وكم مرة مررت عليها متشمتا ولسان حالك يقول "الله لا يغير علينا ، هذا في بلاد الخواجات" ... ولكن الحقيقة هي أن كل تقرير مخجل من هذا النوع تعقبه موجة تصحيح تنتهي باستئصال المشكلة أو على الأقل الحد من تفاقمها .. فحين تتحدث أمريكا مثلا عن انخفاض مستوى التعليم فيها ، أو تعترف كندا بوجود فساد مالي في حكومة كيوبيك، أو تتحدث شرطة فرنسا عن ارتفاع مستوى التحيز ضد المهاجرين؛ فهذا وحده بمثابة اعتراف بمشكلة يعقبها حل مناسب وأكيد (وإلا لماذا الاعتراف بها أصلا)!! أما حين تخدع الشعوب نفسها وترفض الاعتراف بمشاكلها الخاصة من فساد وبطالة وفقر وخلل في الفكر والممارسة فهذا بمثابة قنبلة موقوتة ونهاية محتومة وحالة انكار تشبه رفض المريض الاعتراف بالمرض (ناهيك عن قبوله أصلا بأي علاج) !! ففي الاتحاد السوفياتى القديم مثلا كان من المستحيل الاستمرار أكثر تحت النظام الماركسي المغلق ولم تبدأ روسيا باتخاذ طريقها الصحيح والطبيعي إلا بعد الاعتراف بهذه المشكلة واعتماد غورباتشوف سياسة المكاشفة وإعادة البناء (البيروستريكا) .. وفي أمريكا سبق أن تعرضت الى احصائيات "مخيفة" تثبت تدهور مستوى التعليم هناك . ورغم ان الوضع بدا من الظاهر (سيئا جدا) إلا ان مجرد الاعتراف به يعني اتجاهه نحو التحسن وذكرت حينها ان الاوضاع التعليمية هناك تفوق بمراحل ما هو موجود فى الدول العربية وكل مافى الامر ان الامريكان (طماعين شوي) ويقلقهم التقدم المطرد لمستوى التعليم فى النمور الآسيوية سنغافورة وكوريا وتايوان!! باختصار شديد : نحن أيضا بحاجة للاعتراف بمشاكلنا الخاصة بشكل دوري ومستمر دون خوف أو تحرج .. نحتاج إلى سياسة مكاشفة دورية وإعادة بناء ذهنية تشبه ماحدث في روسيا أيام غورباتشوف .. نحتاج لشجاعة الاعتراف بأخطاء الماضي والحاضر (دون محاسبة أو تقريع) منعاً لتكريسها في الحاضر وتكرارها في المستقبل .. نحتاج لقفل أفواه المتملقين بصلاح الأحوال ودعاة الخيرية ومنح الفرصة لمن يغنينا عن استيراد غذائنا وثيابنا من الخارج !! ... نحتاج أولا وقبل التفكير بأخذ العلاج إلى الاعتراف بأننا نعاني من مرض حقيقي يدعى التشدق بالماضي، والغرور بالحاضر، والشهادة يوم الحساب على أمم أفضل منا بمراحل...