من يتمعن في ملامح الأصول النظرية لمنظومة الفلسفة الليبرالية بصبغتهاالغربية ويعي تماما طبيعة مرتكزاتها الفكرية سيظفر بقناعة راسخة مؤداها أنه لا وجود لتلك الفلسفة في واقعنا المحلي ولو خضتَ التجربة فباشرْت استقراء المشهد واشتغلت على استنطاق معالمه واستسبارأغواره لما ظفرت بصورة واقعية حية لليبرالية كتجسيد مشخص إذ ليس لها امتدا محلي وسيعييك العثورحتى ولوعلى نسخة كربونية باهتة من الصورة الأصلية لليبرالية. نعم ثمة أصوات لا تفتأ تنسب ذواتها إلى خط الثقافة الليبرالية – الظاهرة الصوتية تتكررهنا!- لكن يبقى أن هذا محض ادعاء لا تثبت حقيقته أمام النقد ولاتصمد مضامينه أمام المحاكمة. إنه لا وجود لليبرالية عندنا لماذا؟لأن الليبرالية في نموذجهاالغربي تُمركزجملة من القيم فهي تنهض في بنيتها التكوينية ومشغولاتها الأيديولوجية على أولوية الحرية كقيمة يراد لها التمدد – كأولوية شرطية - بكل عمقها وثقلها في كافة السياقات الحياتية إنها حرية شمولية عامة تضرب بجذورها لتنداح في كافة مكونات الواقع الوجودي وهومالم يتبنى الدعوة إليه (صراحة) أي ليبرالي في الداخل المحلي. ليس ثمة ليبرالي محلي ملتزم بالأصل الشرطي لليبرالية إلا إن كان من وراء جدر فقصارى من يتبنى الليبرالية الانحباس في جزئية من جزئياتها – البعد الانتقائي حاضر وبكثافة في هذاالمساق – والتمحور حوله, بيد أنه تمحورلا يسوغ أن يتشكل على ضوئه حكم على ذات ما بانتمائها إلى المدرسة الليبرالية لأن المقياس المعياري الأساس في هذا المجال هوالتماهي الكلي – أوشبه الكلي - والمباشرمع الأصول المركزية للمبدأ الليبرالي وطبيعة مكونات جهازه المفاهيمي بحيث يستحيل هذا المبدأ إلى إطار مرجعي وحيد – أو أول على الأقل – وهذا ما لا تكاد تقف عليه في كافة تلك الأصوات الليبرالية المحلية التي يبدو أن محركات الليبرالية في منظور كثير منها تتمثل فقط في مشاغبة الاتجاه المحافظ والاشتباك مع نسقه المهيمن وتبني الرؤى الهامشية المغايرة للنمط المألوف!. إن من نافلة القول التأكيد على أن الليبرالية كآلية إجرائية منفصلة عن عمقها الأيديولوجي ليست شرا محضا بل تنطوي في بعدهاالتنظيمي على أدوات إجرائية ملموسة المردود,عالية المحتوى وهي كما تنطوي على زخم من الأبعاد المتناهية السلبية كقيامهاعلى عدم مركزية الدينونة وعلى قدرعال من الإنفلات السلوكي المقنن في قضايا كالجنس المعتمد على الإفضاء الفوضوي,وكفلسفة البناء التكويني للنظام الأسري الهش ونحوها فإنها في المقابل – ولكي لا يجرمنا شنآنها على ألاّ نعتمد القسط - تحتوي على مفردات مضيئة وعالية الرمزية في الحيثيات المتصلة بإدارة الواقع والتي هي من قبيل (المصالح المرسلة) كالتنظيم المنهجي المتصل بالعلاقة الثلاثية بين السلطات, ومحاسبة أداء الأجهزة الحكومية والشفافية واستقلال السلك القضائي وتكريس مبدأالمأسسة وإعلاء سقف الأفق الحقوقي ونحوها من الأبعاد الإجرائية التي كثير منها يجد له ما يسنده من معايير التركيبة الثقافية التي ننتمي اليها وخصوصا إذا تم التخفف من الحمولة المفاهيمية السالبة التي ينطوي عليها المعنى الفلسفي العام لتلك الآليات المنتمية إلى مايعبرعنه بأدبياتناالأصولية ب المصالح المرسلة . الصورة الذهنية لدى الليبرالي المحلي عن الليبرالية الغربية صورة يطالها الكثيرمن التشويه حيث تخلومن شرط الفهم المعرفي المجرد ونتيجة ذلك الفهم المشوه نراها جلية في طريقة الأداء الليبرالي – والوصف هنا تجوزا - المحلي حيث نلحظ أن الليبرالي المحلي إضافة إلى أنه أحيانا قد يغرق في أتون التقليدية – ولكلِ تقليديته -فهولايجسد الليبرالية لا من ناحية خلفيتها الفلسفية ولامن ناحية كونها جملة آليات ابتكرها العقل البشري وباتت من القواسم المشتركة, بل وكثير منهم يبدو أنه يتداخل عليه هذان الملمحان! ولذلك يتم الإخفاق في تكييفها إلا على نحومفبرك والشواهد أمامنا ماثلة في الطرح الليبرالي المحلي فهو في (كثير) من صوره لايدعوإلى الليبرالية كأدوات إجرائية بل ولا يحفل كثيرا بقضايا العدالة والتنمية وقيم المواطنة والوعي الحقوقي بل حتى عندما يتحدث عن المرأة لا يستحضر معاناتها الحقيقية فهو لا يحفل بحقوق الأرامل والمطلقات والمعلقات والعاطلات ولا يعمل على فضح الانتهاكات القانونية وكشف الثغرات التنظيمية ولا يدندن كثيراً حول أخلاقيات البعد الحقوقي وأدبيات الحراك المدني وتجاوزالفردية نحوالمؤسساتية كما هو حال الليبرالية التي تشكلت على يد سدنتها ك(جون لوك) إنما يعتني بل ويدندن كثيرا حول قضايا هامشية ذات بعد شهوي بل ثمة أطروحات هرائية تخالف لمجردالمخالفة حيث الرغبة في الطفوعلى السطح تحدو باتجاه استصحاب الشخصنة الانفعالية واجتراح المشاكسة الثقافية والبحث عن الحضورالصاخب من خلال الانشقاق على أسس منطق التجانس الجمعي!.