كثيرا ما يخرج علينا داعية في السعودية أو خارجها بتصريح مدوٍ ينم عن جهل مركب أو على الأقل من غير حسبان لمفهوم المقام والمقال أو (موافقته لمقتضى الحال) كما يقول البلاغيون فتذهب الركبان بذلك التصريح أو الحديث إلى أبعد مدى في إثارة إعلامية لو تم تجاهلها (لربما) انتهينا من كثير من مشكلات الشحن الفكري والتياري بين الاتجاهات الفكرية المختلفة على الأقل على المستوى الإعلامي الذي ينتهي مع انتهاء الحدث ليبحث عن حدث آخر مدوٍ ليتم صناعة العجلة من جديد في مسائل بديهية لمن فكر قليلا في كثير من الأمور وحكم عقله بشيء من التفكير الناقد ليكشف تهافت الأفكار ومدى ضعفها وشذوذها عن مجموع، ولذلك فإننا نرى من يتصدى للمشهد الثقافي من التيارين الأكبر في السعودية سواء من الخطاب الديني أو من الليبراليين أنهم من النوع الذي لا يمكن وصفهم إلا بالباحثين عن الإثارة لا أكثر. في حين لا تجد في خطابهم أي نوع من أنواع العمق الفكري أو الديني بحيث يمكن تمحيص الأمور ووضعها في سياق واحد يمكن له أن يؤسس خطابا متسقا. أعيد الكلام في أن ذلك ينطبق على الخطابات السعودية: الديني والليبرالي على حد سواء. وحينما أحدد كلمة (الخطاب الدعوي) فإنما هو المقصود تلك الأفكار التي تدعو إلى تبني أفكار محددة دينية أو بشرية من غير أي مساءلة فكرية أو معرفية مما يمكن أن تكون أساسا فكريا ينبني عليه معظم الأفكار اللاحقة. الخطاب الدعوي لا يهمه مدى القناعة الفكرية الكاملة والمستقلة من قبل الآخرين بقدر ما يهمه حشد أكبر جماهيرية كنوع من الصراع الفكري بين التيارات المختلفة. نحن هنا أمام عملية تحشيد ثقافي أو ديني تجاه أمر محدد لرغبات عديدة لا تظهر من عملية التحشيد هذه. لكن يبقى الخطاب الدعوي الديني أكثر وضوحا في هذه المسألة من الداعية الثقافي، كون المسألة الدينية تعود في طبعها إلى هذا التحشيد والرؤية الدعوية أكثر من الرؤية المعرفية. بعض الدعاة وأكرر على كلمة (بعض) يمارسون نوعا من التجهيل المتعمد من خلال بث الكثير من القضايا الاجتماعية والفكرية قد تكون مكذوبة من المصدر أو نوعا من التأويل للحدث لكي يتناسب مع الرؤية الدعوية التي يريد إيصالها بعض الدعاة. حمزة المزيني تتبع استطلاعا للرأي ينسب إلى مجلة فرنسية أجرته مع عدد من نساء فرنسا يذكرن فيها رغبة المرأة الفرنسية في التخلي عن العمل والتفرغ للحياة الأسرية، ويتم نقل هذا التحقيق كانتصار ديني للمجتمع الإسلامي من قبل الدعاة وبعض الكتاب الإسلاميين في تخلي الغرب عن كثير من قضاياه التي كان يدعو إليها، لكن الدكتور المزيني لم يجد أثرا بعد التتبع في عدد من الجهات بما فيها اسم المجلة المنسوب إليها الاستطلاع ليكشف عن كذب هذا الادعاء في عدم وجوده وعدم وجود مجلة بالاسم، ويمكن الرجوع لمقال الدكتور المزيني الخميس قبل أسبوعين في الشرق بعنوان (الكذبة الكبرى). درج بعض الدعاة على الإدلاء بتصاريح وقضايا اجتماعية ودينية وأحيانا خرافية لأهداف الجماهيرية أحيانا أو إقناع المجتمع بصحة خطاباتهم الدعوية أو ربما ضربا في صحة خطابات غيرهم من التيارات الأخرى في عملية إيديولوجية تجهيلية بحتة ومتعمدة، وما يثبت ذلك أننا لا نرى تراجعا أو اعتذارا معلنا من قبل هؤلاء حينما يتم كشف زيفهم كما كشف الدكتور حمزة المزيني تلك الكذبة. لا يمارس الخطاب الدعوي أي عملية معرفية بقدر ما يمارس دعوة، وطبيعة الدعوة أنها مؤمنة إيمانا مطلقا بالأفكار حتى وإن كان الداعون إليها لا يحظون بقدر من المعرفية الدينية الكافية بحيث تؤهلهم إلى الحديث في القضايا الدينية. كثيرا من رأينا من يتصدر المجالس العادية في الحديث الديني وببلاغة عجيبة لكن تسير في اتجاه التجهيل المجتمعي أكثر من المعرفي، وحينما يتم الرد عليه بالخطاب المعرفي الذي يتميز بالتقعيد يتم الالتفاف عليه بطرق أخرى أن تضليل أو غيرها إبقاء على الإيديولوجيا أكثر من الشك المنهجي فيها والمنتصر هو الأعلى صوتا وليس معرفة.. الإشكالية أكثر أن هذه الدعوة إنما هي دعوة للتضليل وليس للعلم بمعنى أن هذا الداعية أو ذاك لا يدعو إلى الدين بقواعده الأصولية المعروفة، وإنما بالطرق العاطفية البحتة والضرب على أكثر الأمور حساسية لدى المجتمعات المحافظة، والسبب في ذلك أن القواعد العلمية لا تتناسب مطلقا مع الخطاب الدعوي كونها تضع الأمور تحت محك الاختلاف وتعدد القراءات، وهذا مالا يريده لكونه لا يمكن القبض فيه على فكر المجتمع مع الاختلاف والتعددية الدينية فضلا عن التعددية الفكرية.