د. جاسر عبدالله الحربش - الجزيرة السعودية لدي ملاحظة على الاختلاف النوعي في تكيف أسلوب ومحتوى المواعظ عندنا مع المكان ونوعية الحضور والإطار الاجتماعي المحيطة بالواعظ. نبدأ أولا بالمواعظ المعتادة التي يتم تقديمها في بيوت الله، حيث ينهض أحد المصلين ويهمس في أذن إمام المسجد طالبا السماح بإلقاء موعظة على الحضور قبل انصرافهم من المسجد. هذا النوع من المواعظ يقوم على مبدأ التطوع، أي بدون أي مقابل مادي، ويركز على تزهيد السامعين في الحياة الدنيا وتحذيرهم من الانشغال بها عن الآخرة، مع الاتيان بالقليل أو الكثير من التثقيف التربوي والأخلاقي والسياسي وأحيانا التحريضي. على أي مستوى عادة تكون طريقة الوعظ وطبقات الصوت واختيار المفردات أمام حضور أغلبه خليط من بسطاء الناس والعمالة الوافدة؟. المألوف أنها تكون هادرة زاجرة، وطبقات الصوت مرتفعة مجلجلة يسمعها السكان في المنازل المجاورة، والمفردات مختارة من النوع التوعدي التحذيري ولفت النظر إلى الدسائس الخبيثة والأنشطة التغريبية الحثيثة التي يراد بها تقويض المجتمعات الإسلامية وسلبها ما تنعم به من استقرار وازدهار. المؤكد أن الواعظ في مثل هذه المواقف يعرف أن أغلب السامعين في المساجد مجرد أناس بسطاء يملأ الإيمان قلوبهم وينتمون إلى الطبقات المتوسطة وما دونها، وأنهم ليسوا في وارد التفريط في دينهم ولا أخلاقهم، وليست لهم علاقة من قريب أو بعيد بالغرب ولا التغريب، وأن جل همومهم يتركزعلى تدبير حاجات بيوتهم وأسرهم بالكفاح اليومي في طلب الرزق والستر. هذه الطبقات من متلقي الوعظ الديني تعيش مغموسة في المعترك النمطي للحياة والنكد اليومي في التدافع للبقاء فوق خط الفقر. لذلك هم ليسوا في حاجة إلى مواعظ هادرة زاجرة آمرة ناهية، بقدر حاجتهم إلى تطييب الخواطر وتهنئتهم بصبرهم على مشاق الحياة وحثهم على الاستمرار في الكفاح وطلب الستر، بدلا من استثارة أعصابهم بالتهييج السياسي وتوعدهم بما لا يخطر لهم على بال. لننتقل الآن إلى الوعاظ والمواعظ في مجالس هوامير العقارات والبنوك والشركات والوكالات التجارية العالمية وأشباههم من أصحاب الهيبات والوجاهات. بداية أرجو ألا يظن أحدكم أن هوامير المال والأعمال في هذه الصحراء لا يعيرون الوعظ الديني انتباها ولا يحسبون له حسابا، لأنهم في الواقع على تواصل وثيق معه. أكثر ما تنعقد حلقات الوعظ في مجالس الهوامير يكون أثناء المناسبات الدينية الكبرى وحوادث الوفاة، أو عندما يصاب أحد الهوامير بعارض صحي خطير أو تلم به مصيبة من مصائب الدهر من حيث لم يحتسب. يعد شهر رمضان الكريم من أهم المناسبات لانعقاد مجالس الوعظ الديني في قصور ودارات واستراحات هوامير المال والأعمال، حيث تتم هناك بطرق وتقنيات مختلفة تماما عن تلك المواعظ التطوعية في بيوت الله. الذي يحصل هناك عادة أن الهامور يتفق مع أحد نجوم الفضائيات من مشاهير الوعاظ، وأحيانا مع أكثر من واحد، ويتشارط معه أو معهم على مبلغ من المال مقابل كل حلقة وعظ في مجلسه العامر بأكبر قدر من الهوامير المقربين. نادرا ما يقل المبلغ مقابل حلقة الوعظ الواحدة عن عشرة آلاف ريال، وتصل أحيانا إلى عشرات الألوف، أي بما يزيدكثيرا عن مرتب وزير أو طبيب استشاري لشهركامل من العمل المهني المسؤول. المبلغ المدفوع من الهامور للواعظ لا يسمى بالضرورة أجرعمل أو مقابل خدمة أو إكرامية، لأن في مثل هذه التسميات امتهانا لشخص الواعظ، علاوة على أن الوعظ الديني كعمل خيري أسمى وأكرم من أن يدفع مقابله المال، إذا كان المقصود به وجه الله. العرف السائد ضمنيا هو أن المبلغ الذي يدفعه الهامور يسمى مساهمة في الأعمال الخيرية، والله أعلم بالسرائر وبمقدار الحقيقة في ذلك. وبعد، كيف تتم الموعظة في مجالس الهوامير، وبأي تقنية صوتية وبأي محتوى؟. إذا أتيحت لك فرصة حضور بعض هذه المواعظ سوف تدرك الفرق النوعي بين الوعظ أمام الهوامير والوعظ التطوعي في بيوت الله أمام بسطاء الناس. الموعظة في حضرة الهامور وضيوفه الكبار تكون عادة في منتهى التلطف والهدوء، تتحاشى طبقات الصوت فيها إزعاج آذان السامعين، ويدخل في المحتوى الكثير من التذكير بعفو الله ولطفه بعباده وقبوله توبات التائبين، مع بعض التحذير الخفيف من الانغماس في الملذات الدنيوية على حساب الآخرة. في أغلب الأحيان يستعرض الواعظ، بشيء من اللباقة والكياسة، بعض الخصال الحميدة والفضائل المحمودة التي يتحلى بها الهامور باعتباره من رجال الخير. الإشكال في الموضوع هو أن الهامور والواعظ يعرف كل واحد منهما رأي الآخر في صاحبه.