د. زهير محمد جميل كتبي - المصريون المصرية اطلعت على الحوار الصحافى الذى أجرى مع سيدى سماحة مفتى عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ رعاه الله ، والذى نشر بجريدة المدينة يوم الجمعة 15/02/1434ه، وبملحق الرسالة قد كتبت الجريدة عنوان رئيسياً على صحفتها الأولى: ( المفتى العام: حديث الحرية قبل التدين "باطل")، جاء فيه: ((أكد سماحة المفتى العام الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ أن مناداة البعض بالحرية قبل التدين أمر فاسد ومنحل ومنحرف، مشدداً على أن هذه دعوى ومقولة باطلة، وعلى المؤمن أن يحافظ على دينه)). رغبت بما أملك من معرفة وثقافة وحقائق أن أحاور سماحة المفتى - حماه الله - وأسأل: هل حقاً يأتى التدين قبل الحرية أم تكون الحرية قبل التدين؟ أفعل ذلك مع من هو أكثر منى علماً وأرفع درجة ومكانة. قال الله تعالى فى محكم التنزيل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة 11). وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر 28). وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: [إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر]. فحين أعلق، لا أقصد بكل تأكيد، تجاوز علمكم أو مقامكم أو التقليل من شأن رأيكم. وأسير إليكم - حفظكم الله - تمشياً مع قوله تعالى: {وجادلهم بالتى هى أحسن..}. وقوله تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه 44). فالهدف من ذلك تحقيق قول ربنا تعالى: ((رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ) (الشعراء:83). والسعى لاستبيان الحق والحقيقة وفهم أكثر عمقاً لقضية [الحرية].. وما هى إلا محاولة جادة للتعلم وامتثال لقول الإمام مالك: ((كل واحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر..)). كما أؤكد أنه لا خوف على عقيدة الإسلام فهى أقوى من كل غزو. فى البداية وبالله التوفيق، اسمح لى سيدى أن أبادلك الرأى فى أن التدين قبل الحرية، بل وأجزم بأن الحرية يجب أن تقوم قبل التدين، وإليك الدليل والحجة والبرهان فى عقيدة الإسلام من السنة والقرآن، فيما يلي: قول الله تعالى: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) - البقرة: 260-، وقوله تعالى: (فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام : 78). فالله تعالى منح إبراهيم عليه السلام فرصًا تدريبية وبرامج عملية لتعميق إيمانه وتأكيد تدينه عبر مزيد من حرية التدقيق والتفكير والتأمل دونما إكراه أو إجبار أو إلزام. بما أراه من علامات ومعجزات قادته يقيناً إلى الراحة والاطمئنان، لهذا تقدمت الحرية على التدين ممثلة فى حرية الاختيار حتى وصل إلى اليقين الكامل. وفى قول النبى صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة فهل ترى فيها جدعاء). هنا تأكيد آخر على أن الحرية (حرية الوالدان) تتقدم وتسبق وإن اختلف علماء السلف فى تفسير معنى الفطرة وإذا ما كانت الإسلام أو غيره. كما قال الله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:256). والإكراه والإجبار هنا المقصود به اختيار الدين، فالله تعالى وهب الإنسان حرية تامة فى اختيار دينه مع التمايز بين الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت. حتى مع المسلم نفسه جعل من العبادات ما هو فرض، وما هو نافلة يثاب المؤمن على فعلها ولا يعاقب على تركها وإن كانت تدعم جانب الحرية لا أسبقيتها. بل يمتد الأمر أبعد من ذلك فى هذا الإطار ليشمل مراحل مفصلية فى تاريخنا الإسلامي. وقصة (القصواء) دليل آخر، حيث أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بترك الحرية لها، فهى مأمورة وهذا يتوافق مع حديث كل مولود. وكتب السيرة حافلة بالكثير فى هذا الجانب. إن الحرية عمادها الصدق وقوامها رقابة الإنسان ذاتيًا قبل رقابة الآخر له. والحرية هى ترجمة حاجات الإنسان ومتطلبات المجتمع إلى سلوكيات وتطبيقات عملية بما ينسجم مع الجوانب الأخلاقية والإنسانية والفطرية بعيدًا عن القهر والقيود أو التملق والتزلف. يقول هيوبرت همفري: الحرية تتحقق بمنجل الحوار والرفض والمناقشة. ويقول ويليام فولبرايت: فى الديمقراطية، الخلاف هو عمل إيمان. كالدواء قيمته ليست فى طعمه ولكن فى تأثيره. إن حرية التفكير والنقد والتعبير يجب أن تكون من مسئوليات الدولة أولاً، تدعمها وتحافظ عليها وتحميها. فالحرية حق للإنسان تمامًا مثل حقه فى الحياة بأمان والصحة والتعليم. بل إن الحرية يجب أن تكون كالماء والهواء للإنسان إذا ما أردنا أن نبنى أجيالاً قوية وكوادر عفية تقدر على تحمل المسئولية والنهوض بالمجتمع. لا أظن أن هناك دستورًا حمى الحريات مثلما فعل القرآن الكريم، ولا أعتقد أن هناك قانوناً حرص عليها وعززها مثل قانون محمد بن عبد الله فى أحلك الظروف وأصعب المواقف. فى وقت إرسال الجيوش والسرايا. فقد أسس النبى الكريم (صلى الله عليه وسلم) القواعد المتينة والأساسات الصلبة لفكرة الحرية عبر دعوة الناس للإسلام، فإن هم رفضوا فالجزية. لم يقاتل النبى صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من بعده، من بقى على كفره وضلاله إذا دفع الجزية، بل كان يتعهد المسلمون مقابل ذلك بحماية أموال وأعراض من تمسك بدينه من المخالفين والدفاع عنهم، بل وتركوا لهم حرية العبادة فى معابدهم وكنائسهم. هل تريدون مثالاً أكثر وضوحًا مما فعله عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع نصارى القدس حين فتحها؟ [email protected] أديب وكاتب سعودي