هل ما حدث الثلاثاء قبل الماضي في النادي الأدبي في جدة من اعتراض بعض المحتسبين على مشاركة المرأة «لمكان تواجدهم»؛ مع أن تواجد النساء والرجال في مكان واحد ليس بغريب في مجتمعنا؛ فالنساء والرجال معا في الطواف والسعي وفي الأسواق وفي المقاهي والمطاعم. مما يجعل ردة فعل المتشنجة من بعض من حضر الأمسية رداً يدخل في دائرة الشاذ لا الرد السوي؛ باعتبار أن كل ردة فعل تصطدم مع السلوك الطبيعي أو مما يدخل ضمن الطبيعي لتكراره والاعتياد عليه هي ردة فعل شاذة، والعكس صحيح؛ أي أن ردة فعل ما يدخل في صفة السوي لفعل غريب هي بدورها ردة فعل شاذة. ولذلك اعتبرت ما ورد من سلوك بعض من حضر الأمسية سلوكا شاذا وفق الشكل العام لاعتيادية وتكرارية الحالة التي استفزت ذلك السلوك. وقد يتساءل البعض هل ما حدث في «ثلاثاء انتفاضة المحتسبين» يحمل في طياته قنبلة ثقافية قادمة لقلب طاولة الوضع الثقافي رأسا على عقب؟، أم أنه مجرد سلوك لأفراد عبروا الطريق الثقافي لا يحمل أي تهديد لتحول ثقافي متزمت في الفترة القادمة؟ ما أقصده أن علينا أن لا نستبق الشر في تحليلنا لما حدث ولا نصعد سوء الظن بتفسير يستند إلى وهمنا لا إلى المنطق، كما أن علينا أن لا نُسذّج ما حدث واعتبار فاعلية شرذمة من المتخلفين، فلا المبالغة محمودة ولا التسخيف مطلوب. إنما المحمود والمطلوب التأمل فيما بين الرماد وما هو تحت الركام الذي يُثير من وقت لآخر التمييز ضد المرأة باعتبارها مخلوقا معوّجا يحتاج إلى من يصلحه ويحميه من الوقوع في الغواية والفتنة. إن ما حدث في نادي جدة الأدبي يكشف لنا «تطرف موقف الفكر الاحتسابي» من المرأة، وهو تطرف لا يتعلق بالوجود الثقافي للمرأة فقط، صحيح أن فاعلية الوجود الثقافي للمرأة هو الأوضح شكلاً على تحرر المرأة من سجن الفكر الاحتسابي، كما أنه الأوضح معنى في إثبات حق المرأة في تفعيل «الولاية التشاركية مع الرجل» وهو الخطر الذي يتوجس منه الفكر الاحتسابي. بل يتعلق هذا التطرف الاحتسابي بالإضافة إلى خطر «الولاية الثقافية للمرأة» على «تعاليم الفكر الاحتسابي» بوجود المرأة الاجتماعي العام، فهو ضد مشاركتها في أي مجال لا يخضع لضوابطه وهيمنته. وأي محاولة تفعيل لتلك المشاركة بعيدا عن ضوابط هيمنة الفكر الاحتسابي، يسعى حثيثا إلى تخويف الجميع من المرأة باعتبارها مركز «غواية الفتنة» وأساس «شيطنة الحاصل»، وسبب «فساد المجتمع والأمة». وهو ما يؤكد لنا أننا مازلنا رغم إنجازات المرأة السعودية داخل نفس الدائرة ولم نخرج منها، الدائرة التي حُبست فيها المرأة المسلمة قرونا لأسباب ما أنزل الله بها من سلطان، لتظل جارية تحت رحمة الفكر الاحتسابي بدلا من رحمة الله.! فلماذا رفض بعض المحتسبين وجود المرأة في نفس مكان وجودهم على الرغم من أنها تجلس خلفهم في مكان قصي؟ وأظن أن الأمر هاهنا ليس متعلقا بحجة الفتنة أو الاختلاط بل «بعقدة المرأة» التي خلقها «الفكر الاحتسابي» في ذهن أصحابه من المعلمين والمتعلمين. وبذلك نجد أنفسنا أمام «عيوب الفكر الاحتسابي» لا تطرف أصحابه؛ لأن الدافع هو أساس الفعل، ولا فعل بلا دافع أو قاعدة اعتقاد. إن الفكر الاحتسابي يستمد قوته وسلطته من «إضعاف المرأة» وكلما زاد في إضعاف المرأة عبر إقصائها وتصعيد الوهم بغوايتها وفتنتها وشيطنتها ونقصان قدرتها العقلية والتشكيك في استحقاق ولايتها، زادت فرعنته وهيمنته. فالمرأة هي الوسيلة الحقيقية لإثبات وجود الفكر الاحتسابي، ولإعطائه بإحساس «سلطة العسكرة» كما أنها تستطيع أن تهدد «ذلك الوجود» متى ما تحررت من الدائرة التي رسمها لها الفكر الاحتسابي لحبسها، من أجل إيجاد جواز تشريعي لوجوده، وكأن تعبيد المرأة لازم تشريعي لوجوده. إن الأمر حسبما أعتقد يحتاج من المؤسسة الدينية لدينا إلى «إعادة تأهيل الفكر الاحتسابي»، بما يتناسب مع عصرنة المجتمع ونهضوية المرأة على مستوى التفاعل والمشاركة، فيما لا يخالف تشريعا دينيا صريح النص وخالص القاعدة غير قابل لهوى التأويل والإضافة لزيادة سلطة ومصلحة، وفيما لا يضر بحرية المواطن سواء الرجل أو المرأة، فكل امرأة لها الحرية الكاملة في سلوكها ورأيها فيما لا يخالف تشريعا عقديا صريحا وخالص القاعدة، وفيما لا يهدد الأمن المجتمعي، ولا يشترط وجوب التقييد بما يفرضه تأويل الفكر الاحتسابي القائم على ضعيف الأدلة. «فمفهوما المعروف والمنكر» يتطوران بتطور المجتمع، وهو تطور قد يوسع دائرة المعروف ويقلص دائرة المنكر، باعتبار أن الوعي الإنساني كلما تطور زاد إدراكه بالمنافع والأضرار الناتجة عن السلوكيات، وذلك الإدراك بدوره يوسع المعروف ويقلص دائرة المنكر، كما أن ذلك الإدراك الناتج عن الواعي يدفع الإنسان إلى ممارسة «احتساب ذاتي» وهو بدوره أيضا يسهم في توسيع دائرة المعروف وتقليص دائرة المنكر، وبذلك يصبح العلم والثقافة معادلا للفكر الاحتسابي و»إنما يخشى الله من عباده العلماء»، فالعلم والثقافة ترقي سلوك الإنسان وتبعده عن شبهات المنكر. ليس المثقف ضد الفكر الاحتسابي بل هو ضد ما يستند عليه غالبا من الأدلة الضعيفة أو فرض أحادية الرأي القابل للتعدد على المجتمع؛ بما يعني مصادرة حق الفرد في اتباع الرأي الفقهي الذي يناسبه والذي لا يدخله دائرة الذنب أو المعصية، كما أن المثقف ضد العنف الذي يمارسه بعض المحتسبين و»عنجهيّة ونرجسية الأداء» وكأن المحتسب «نبي» أو «إله». إن التقوى تؤدي إلى «رقي المرء» لا إلى «توحشه وعنفه وتطرفه» ولنا في رسولنا الكريم أسوة حسنة. يجب أن لا يكون هناك أي تعارض بين الثقافة والفكر الاحتسابي، أو أي وهم يروّج لفكرة العدائية بينهما وأن أحدهما يمثل «الكفر» والآخر يمثل «الإيمان»؛ لأن كليهما على الاعتبار مؤسس للشخصية الاجتماعية على مستوى الفكر والأخلاق، كما أن كليهما له دور في صناعة نهضة المجتمع، وكل منهما يجب أن يكون حاميا لوظيفة الآخر لا ملغيا لها أو مشككا في نفعيتها أو مؤكدا لتخلفها أو شيطنتها، وأظن أن هذه هي العلاقة الصعبة في ثنائية هذه المعادلة، ولا أقصد الدمج بينهما إنما التكاملية سواء بالتتابع أو التعاقب أو الترتيب أو حتى التراخي. كما لا بد من دمج «شباب الفكر الاحتسابي» مع فئات المجتمع المختلفة والتيارات الفكرية المختلفة؛ لتعويدهم على مرونة قبول التعدد، ومشاركة التفاهم مع الآخر، والذي يظنونه وهم داخل القلعة التي حبسهم فيها الفكر الاحتسابي المتطرف أن كل من لايشبهم هو قادم «من عصر أبي جهل وأبي لهب». وأظن أن استمرار علاقة التوتر والعنف بين المثقفين والفكر الاحتسابي المتطرف قد يدفع المثقف في يوم ما إلى الخروج حاملا شعار «المثقف يريد إسقاط المحتسبين» و»الله المستعان على ما تصفون».