كم أنا سعيد اليوم، أن ألتقيَ مجدّداً بزملائي وطلابي في جامعة الملك سعود، التي درَست فيها بين عامي 1961 و1965م، ثم شاركت في التدريس في قسم الإعلام فيها بعد قيامه في عام 1972م ولعدة سنوات، وكم أنا مسرور، بالمقدار نفسه، بمشاركتكم لي اليوم تجربةً مستمرّة في كتابة تاريخ الإعلام في المملكة العربية السعودية وتوثيقه، بدأتها منذ أربعة عقود، في رحلة فرديّة ما زلت أشعر أنها لم تحقّق بعدُ كل الطموحات، وأملي أن يكون في هذا الحديث من الفائدة ما يُغري لنعمل معاً لإكمال ما تحقّق، على أفضل ما يكون الاستمرار بإذن الله، مُبدياً الاستعداد، لوضع ما لديّ من أدوات التوثيق في خدمتكم. ولعلّ أولى خطوات الأخذ بهذا الاقتراح، هي أن يتبنّى القسم الفكرة، وأن يسير فيها بإحداث وحدة للتوثيق الإعلامي، تضمّ ما أمكن من الوثائق التاريخية المتاحة والصور والمعلومات وتجمعها تحت سقف واحد، وتبحث عن المفقود منها، وتعمل على حث طلاّب البكالوريوس والدراسات العليا والطالبات، لاختيار أطروحات علمّية ذات طابع توثيقي يصبّ في هذا الاتجاه، فمع تقديري لكل الجهات المسؤولة عن الإعلام في الوقت الحاضر، الرسمي منه والأهلي، لم تُعن جهة واحدة بهذا الجانب بالرغم من أهميته، واليوم نتجاذب هذا الحديث في الجهة الأَولَى والأقدم بين أقسام الإعلام في الجامعات، وأمام الفريق الأقرب لأن يأخذ على عاتقه مهمة جمع شتات وثائق الإعلام السعودي وتولّي المسؤولية المركزية فيه، في الوقت الذي يمكن لبقية أقسام الإعلام أن تتبنّى مشروعات أخرى، والأمل معقود على الجامعة الأم، وعلى قسم الإعلام الرائد، أن يختزن في يوم من الأيام ذاكرة الإعلام الوطني ومعلوماته التوثيقية، وليصبح مرجعاً للباحثين في هذا المجال. التوثيق في حدّ ذاته لا يحظى مع الأسف، بما يتناسب وأهميته، وبلادنا ليست هي الوحيدة في ضعف العملية التوثيقية في كثير من المجالات، ولعلّنا كنّا في زمن مضى أكثرَ اهتماماً بهذا الجانب، فلقد وُثّقت بدايات الصحافة والإذاعة والتليفزيون، بأفضل مما عليه أمر التوثيق الآن. ولا ينبغي النظر إلى التوثيق على أنه مجرد أرشيف للمعلومات وجمعها وتخزينها، لكنه في الواقع علمٌ له أصولُه وأساليبه، وفنّ فيه مثابرة ومعاناة وتحليل، وفيه متعة وسعادة للباحث عند العثور -بعد الجهد- على ما يبحث عنه، سواءً كان البحث عن معلومة أو صورة أو كتاب أو مقالة أو عن مرجع، أو لتحقيق سنة، ومن خلال البحث والمتابعة قد تتفتّح للباحث آفاقٌ أخرى للتنقيب، وأبوابٌ كانت مغلقةً لمزيد من الدراسات والأطروحات. لكم أن تتخيّلوا على سبيل المثال، مقدار سعادة الباحث عند ما تمّ العثور قبل خمسة عشر عاماً على وثيقة في غاية الأهميّة، وهي الأمر السلطاني بإنشاء أول مديرية للمطبوعات عام 1926م، عند ما كان الملك عبدالعزيز سلطان نجد وملك الحجاز، وثيقة نشر مضمونها على استحياء في أربعة أسطر صغيرة البنط في إحدى زوايا الجريدة الرسمية (أم القرى)، ووثيقة أخرى هي عبارة عن المرسوم الملكي الذي أصدره الملك عبدالعزيز عام 1949م بتأسيس الإذاعة، وهو مرسوم لم يُنشر حتى الآن في أي كتاب أو صحيفة أو مجلة. والمثال الثاني، وثيقة كانت مدار البحث عنها طيلة التحضير للماجستير، وتمّ العثور عليها بعد التخرّج، وهي عبارة عن تقرير أعدّه في عام 1963م خبير من هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (.F.C.C عن رؤيته الفنية لتأسيس محطتي التيفزيون في الرياضوجدة). والمثال الثالث، العثور في الصيف الفائت، بعد بحثٍ متواصل دام نحو عامين، على عدد من صحيفة عراقية تتضمّن ما قد يكون أول حديث صحفي للملك عبدالعزيز أُجري معه قبل مائة عام، في قصة شيّقة لا تخلو من الصعوبات، نشرت تفاصيلها قريباً. الملاحظ في هذه الأمثلة، أن البحث عن معظمها قد تمّ ضمن الاهتمامات البحثية الشخصية اللاحقة بعد التقاعد، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بعمل رسمي، ولم تكن تهدف لتحقيق ترقية علمية، مؤكّداً في هذا السياق، أن البحث العلمي عمل ممتع متصل، يسري في دم الباحث، وأن أجمل الأعمال البحثية هو ما يستمرّ فيه المرء بعد التحلّل من الالتزامات الوظيفية، فلقد صدر لمحدثكم حتى تاريخه، نحو خمسة عشر مؤلّفاً في مجال تخصص الإعلام، وتوثيقه تحديداً، ما بين كتاب أو محاضرة مطبوعة، ظهرت كلها بعد الانتهاء من ممارسة العمل التنفيذي والأكاديمي. بدأت هذاالتجربة مع التوثيق -محل الحديث- في أثناء مرحلة الماجستير، التي ركّزت في عام 1968م على إعداد رسالة عن التليفزيون السعودي، وكانت مُحصّلة ذلك وثائقُ مهمة قد لا تكون الآن في حوزة التليفزيون نفسه، واستمرّ ت التجربة ذاتها في مرحلة الدكتوراه في عام 1971م لكتابة تاريخ الإعلام السعودي، فكانت أول عمل شامل من نوعه يجمع معلومات عن وسائل الإعلام المحليّة كافة في مؤلّف واحد، وهو العمل المقرّر في مادة تاريخ الإعلام السعودي في قسم الإعلام منذ إنشائه. ولعل أبرز ما تمّ على صعيد التوثيق خلال النصف الأول من السبعينات الميلادية هو الاهتمام بتوثيق بدايات التليفزيون، إذ صدر كتابان في هذا المجال كانا من إصدارات التليفزيون، كما ألقيتُ بضع محاضرات عامة ذات صلة بالإعلام. ومع انتهاء العلاقة الوظيفية بوزارة الإعلام سنة 1977م، والانتقال بعدها إلى وزارة التعليم العالي مع مواصلة التدريس في هذا القسم، والبدء حينئذٍ في ممارسة الكتابة الصحفية المنتظمة التي عبّرت عن أفكارٍ ورؤىً، كانت تراود الذهن حول تجديد الفكر الإعلامي الرسمي وتطويره ما كان من المناسب الإفصاح عنها بالنشر إبّان الارتباط بالعمل الرسمي السابق بوزارة الإعلام، لكنّ قليلاً من تلك الكتابات الصحفيّة كان ذا طابع توثيقي. وخلال العقدين الماضيين، بدءاً من العام 1992م وقبيل الارتباط بعضويّة مجلس الشورى وحتى هذا العام، صار وقت الكتابة مقسّماً مثالثةً بين: التأليف في مجال الإعلام، وتدوين السِّير والتراجم، وكتابة المحاضرات العامة، فكان مما صدر في ميدان توثيق الإعلام تحديداً الكتبُ والمحاضراتُ المطبوعةُ الآتية: في ذلك العام، صدر أول كتاب في مجال التخصص بعنوان: نحو إعلامٍ أفضل، تضمّن مجموعة المقالات والمحاضرات التي نشرت طيلة السنوات التي سبقت جمعَها في حصيلة بلغت سبعين مقالاً ودراسةً ومحاضرةً، إلا أن نسبة ما كان يصب في مجال التوثيق في ذلك الكتاب قليل نسبيّاً. وفي عام 1999م صدر كتاب وثائقيّ بعنوان: إعلام وأعلام؛ أبحاث ودراسات في الإعلام السعودي، وذلك بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس المملكة، تضمّن ما مجموعه تسعون مقالاً ومحاضرة وبحثاً في تاريخ الإعلام السعودي، مع تراجم لعدد من الشخصيات الإعلامية الرائدة، ولعلّ الكتاب من حيث موضوع هذه المحاضرة يُعد أول عمل مطبوع ذي طابع توثيقي. وفي العام اللاحق 2000 م، صدر الكتاب الأهم في توثيق تاريخ الإعلام السعودي وعنوانه: الإعلام في المملكة العربية السعودية؛ دراسة وثائقية وصفيّة وتحليليّة، واقترن صدوره بمناسبة إعلان الرياض عاصمةً للثقافة العربية، وارتكز في نواته على رسالة الدكتوراه، مع إضافة ما جدّ عليها من معلومات وفيرة في المشهد الإعلامي، وبخاصةٍ في مجال الإعلام الأهلي، والكتاب معروف لديكم يقع في خمسمائة صفحة من القطع الكبير، وقد أصبح اليوم بعد مرور اثني عشر عاماً على تأليفه بحاجة إلى مزيد من التحديث والإضافات. في عام 2002م صدر كتاب بعنوان؛ صفحات وثائقية من تاريخ الإعلام في الجزيرة العربية تضمّن خمسة وعشرين بحثاً معمّقاً، لمعظمها صلة مباشرة بتاريخ الإعلام السعودي، من بينها سبعة تحليلات لمضمون الجريدة الرسمية «أم القرى» مما له صلة بشؤون الإعلام والاتصال في السنوات الثلاثين الأولى من عمرها، مع مقالات أخرى عن شخصيات كان لها دور إعلامي في المملكة من أمثال: محمود شوقي الأيوبي وعبدالعزيز الرشيد ويونس بحري وعبدالله فيلبي ومحمد أسد وعيسى خليل صبّاغ ومنير شمّاء وأسرة الزهير وعبداللطيف ثنيّان وعبدالعزيز العتيقي. وفي عام 2003 م، صدر كتاب يتحدّث عن الجهود الصحفية والطباعية للشيخ العلّامة حمد الجاسر، وهو، كما تعلمون، مُنشئ صحيفة اليمامة، ومؤسس أول مطبعة في الرياض، وصاحب دار اليمامة للتأليف والترجمة والنشر، مع تفاصيل مقابلة تليفزيونية أجريت معه قبل نحو ثلاثين عاماًً ولم تعرض حتى يومنا هذا. وفي العام نفسه 2003 م، صدر كتاب الملك عبدالعزيز والإعلام، وفيه رصد لكل ما له علاقة بالإعلام القديم والحديث في عهده الذي دام ثلاثة وخمسين عاماً، وقد تطرّق الكتاب من بين موضوعاته إلى الصحف التي أصدرها عدد من أبناء هذه البلاد في الخارج في تلك الفترة، وبخاصةٍ ما صدر منها في العراق ومصر وتركيا، مع تحقيق الأقدم من تلك الإصدارات، وقد صدرت قبل ذلك الكتاب بنحو عام محاضرة مطبوعة عن الإعلام الخارجي في عهد الملك عبدالعزيز، من إصدارات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. وفي عام 2007م صدر كتاب بعنوان: أعلامٌ بلا إعلام، يتضمن سِيَر خمسين شخصية متوارية عن الأضواء، نسبة قليلة منهم عملت في مجال الإعلام. وفي العام اللاحق 2008م صدر كتاب بعنوان عبدالله بن خميس، تضمّن «تفريغاً» لمقابلة تليفزيونية أُجريت معه قبل ثلاثين عاماً، ولم تُعرض حتى اليوم، وأُلحق بالكتاب محاضرة عن جهوده الإعلامية، والشيخ ابن خميس كما تعلمون، هو مؤسس صحيفة الجزيرة، ومُنشئ مطابع الفرزدق، وصاحب برنامج مَن القائل؟ وفي العام نفسه 2008م، صدرت محاضرة مطبوعة عن الراحلين -بالوفاة- من روّاد الإعلام السعودي، وكانت في الأصل محاضرتين منفصلتين، دمجتا في كتاب واحد. وفي العام اللاحق 2009م صدر كتاب بعنوان إبراهيم العنقري، وهو وزير الإعلام في النصف الثاني من عهد الملك فيصل، وكان الكتاب في الأساس محاضرةً موسّعة أُلقيت في نادي مكّة المكرّمة الثقافي في ذلك العام. وفي عام 2010م صدرت محاضرة مطبوعة بعنوان: عباس فائق غزّاوي؛ موهبة الفطرة الإعلامية والصدفة، أُلقيت في حينه في نادي مكةالمكرمة الثقافي، والأستاذ الغزاوي كان مدير عام الإذاعة في النصف الأول من الستينيّات الميلادية، وقد أسهم في تأسيس التليفزيون وصار مديراً عاماً للإذاعة والتليفزيون.. وفي عام 2011م صدر كتاب بعنوان: فيصل بن عبدالعزيز؛ أميراً وملكاً، اشتمل على محاضرة عن الإعلام في فترة حكمه، كما تطرّق إلى أمور إعلامية أخرى ذات صلة بعهده. وفي العام نفسه 2011م صدر كتاب عنوانه: سوانح وأقلام في السياسة والثقافة والإعلام، تضمّن ثمانية وثلاثين موضوعاً في مجال الإعلام وتاريخه سبق نشرها صحفيّاً، من بينها على سبيل المثال: الإعلام في عهدي الملك سعود والملك فهد، وتحليلات ومعلومات توثيقية عن أنظمة المطبوعات والنشر والمؤسسات الصحفية والمجلس الأعلى للإعلام. وفي العام نفسه أيضاً 2011م صدر كتاب يتتبع سيرة الصحفي والمستشرق النمساوي محمد أسد الذي عاش في هذه البلاد ست سنوات في أواسط عهد الملك عبدالعزيز 1926 و1932م وقد أُنجز بمناسبة الندوة التي عقدت عنه في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. وفي العام الحالي 2012م صدرت محاضرة مطبوعة بعنوان: عبدالله عمر بلخير؛ مفكّر اكتوى بالإعلام، أُعدت للإلقاء في منتدى عمر بامحسون الثقافي في مطلع هذا العام، وهي تلقي الضوء على المسيرة الإعلامية لعبدالله بلخير وزير الدولة والمشرف العام على المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر في عهد الملك سعود. لعله كان من الأجدر في سياق هذه المحاضرة اقتراح مجالات بعينها لم تتطرق إليها الجهود التوثيقية السابقة، لكن جميع هذه الكتب والمحاضرات موجودة في مكتبة القسم، ويستطيع من يقرأ فيها استخلاص الجوانب القابلة للاستقصاء والمتابعة، حسب تقدير من يطّلع عليها. ولعل من المفيد ذكرُه في الختام، أن العزم قائم، بمشيئة الله، لإصدار موسوعة للوثائق الإعلامية الوطنية، تتكوّن من أربعة مجلّدات في عشرين فصلاً تغطّي مختلف الموضوعات ذات الصلة بالإعلام السعودي؛ تاريخاً وتطوّراً وتوثيقاً، مستفيدة من مجموعة الوثائق المتوافرة مع قراءة لها، والمشروع في بداياته المبكّرة. أما المشروع الثاني، فإنه تفريغ لمقابلة من سبع حلقات، عَرَضَتها قناة الثقافية في الصيف الفائت، عن قصة إنشاء التليفزيون السعودي، بمناسبة قرب مرور خمسين عاماً على تأسيسه، وركّزت على الجوانب التعاقدية التي رافقت تأسيسه، مما لم يكن متداولاً خارج إطار وزارة الإعلام. وعوداً على بدء، لا يهدف هذا العرض إلى التباهي بما صدر، بقدر ما يهدف إلى تبيان الموجود، والتأكيد على أن هناك من الموضوعات التاريخية ما لم تمتدّ إليها يدُ التوثيق بعدُ، والمؤمّل أن يحفز هذا الحديث الحاضرين الكرام للتفكير بدخول ميدان التوثيق الإعلامي من كل أبوابه؛ المقروءة والمسموعة والمرئية، ولتدريس أصوله في منهج أقسام الإعلام، ولاتخاذ مخرجاته مادة للأبحاث والقراءة الحرة، مؤكّداً مرّة أخرى الاستعداد لوضع التجربة والمكتبة والمقتنيات من الوثائق في خدمة الباحثين، ومكرّراً سروري بلقائكم.