عشية الحرب العراقية - الإيرانية، اجتمع صدام حسين بأعضاء مجلس قيادة الثورة في 16 سبتمبر (أيلول) 1980 لمناقشة خطة الغزو. أراد صدام أن يطرح ل«الرفاق» مبررات الحرب ضد طهران، وقدم - بشكل يبعث على الاستغراب - ما يمكن اعتباره تحليلا دقيقا لتوازنات القوى في المنطقة. يقول صدام: «كل دولة في العالم العربي لها وزن، بعضه ثابت والآخر متغير.. ليس بمقدورهم - أي الإيرانيين - أن يغيروا ذلك بالنسبة للعراق لأنه ثابت. السعودية تتقارب معنا لتحقيق التوازن بينها وبين إيران، وتتقارب مع سوريا لتحقيق التوازن مع الأردن. والأردن يتقارب معنا لتحقيق التوازن مع سوريا، ولكي يتوازن مع السعودية. نحن قوة توازن - أولوية - للجميع.. كل ذلك ليس إلا مسلسلا دراميا، ونحن ندرك ذلك ونشعر بالانزعاج» (أشرطة صدام: 1978 - 2001، تحرير كيفن وودز، مطبوعات جامعة كمبريدج). للأسف هذه النظرة لتوازنات القوى لا تزال حاضرة، وإن اختلفت المقادير في أذهان بعض الساسة العراقيين، لا سيما رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي وكبار مساعديه في ائتلاف دولة القانون. إن أكبر جناية تسبب فيها صدام حسين هو تبديده ثروة العراق النفطية في حروب عبثية، وتعريض العراقيين للعقوبات الاقتصادية التي حطمت البلد، وقوضت بناها التحتية، لا سيما حقول النفط العراقية ومرافقها التي لم تشهد منذ عام 1979 أي تحديث يذكر. خلال الأسبوع الماضي أصدرت الوكالة الدولية للطاقة (IEA) تقريرا توقعت فيه أن يبلغ إنتاج العراق من النفط 6.1 مليون برميل يوميا بنهاية العقد الحالي وفقا للسيناريو الرئيسي للوكالة، مقابل نحو ثلاثة ملايين برميل يوميا في الوقت الراهن. هذه التقديرات الإيجابية جاءت في وقت تجاوز فيه العراق جارته إيران، إثر تراجع إنتاجها بسبب العقوبات، لكي يصبح ثاني أكبر مصدر للنفط بعد السعودية في منظمة الأوبك. طبعا، تقرير الوكالة شدد على أن صناعة النفط العراقية بحاجة إلى استثمارات تتجاوز 530 مليار دولار حتى عام 2035، لكي يحقق العراق النتائج المرجوة، ولكن الخبراء النفطيين يرون أن العوائق السياسية داخل العراق، لا سيما بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، مع تفشي ظاهرة الفساد في الحكومة، وتحويل الإيرادات نحو إنفاقات أخرى كشراء الأسلحة.. كل تلك الأسباب قد تعطل نمو العراق اقتصاديا. لأجل ذلك، فإن النفط في الحالة العراقية قد تحول إلى نقمة، وعائق أمام التطور السياسي للبلد، والنمو الطبيعي لاقتصاده. العراق مثل أي بلد نفطي يعاني «لعنة الموارد» - أو «المرض الهولندي» - وهو اصطلاح أطلق على المصاعب التي حلت بهولندا بعد اكتشاف حقل ضخم للغاز الطبيعي في بحر الشمال عام 1959. عندما يتم اكتشاف النفط والغاز في أي بلد، فإن التدفق المفاجئ في الإيرادات بالدولار، غالبا ما يؤدي إلى ارتفاع حاد في العملة المحلية، مما يتسبب مع مرور الوقت في جعل القطاعات غير النفطية مثل الزراعة والتصنيع أقل قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية، مما يترك للصادرات النفطية السيطرة على الاقتصاد. بيد أن «لعنة الموارد» ليست المشكلة الرئيسية التي يعاني منها العراق، حيث تمكنت دول نفطية مجاورة من تنويع صادراتها غير النفطية إلى حد ما، ولكن أزمة العراق الحقيقية - كما ينبه إلى ذلك المصرفي العراقي المخضرم نمير أمين قردار في كتابه «إنقاذ العراق: بناء أمة محطمة» (دار الساقي: 2010) - تكمن في ساسته. يشير قردار إلى أن أزمة النفط العراقي بدأت مع قرار التأميم الارتجالي، الذي اتخذه عبد الكريم قاسم عام 1961، والذي عطل لسنوات لاحقة عمليات التنقيب عن النفط، فضلا عن تفويت ملايين الدولارات من عائدات النفط، في وقت كان العراق في أمس الحاجة إليها. في عام 1979 كان الإنتاج النفطي العراقي يتجاوز ما عليه اليوم بواقع 3.5 مليون برميل يوميا، وحجم الاستهلاك الداخلي لا يتجاوز 500 ألف برميل، ولكن خلال الحرب مع طهران تراجع الإنتاج إلى 900 ألف برميل يوميا، وعقب احتلال الكويت تراجع الإنتاج إلى 300 ألف برميل، وحين صدر قرار مجلس الأمن ذو الرقم 986 بخصوص برنامج «النفط مقابل الغذاء» عام 1995- والذي استغل استغلالا سيئ السمعة - لم يتجاوز الإنتاج 2.2 مليون برميل نهاية عام 2000، وبدلا من أن تتم إعادة بناء مرافق البلد المحطمة، انشغل الديكتاتور ببناء تماثيل وجداريات تؤرخ لنصره المتوهم. للأسف، العراق لم يخرج بعد من هذا السرداب، فحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي التي كان ينبغي أن تكون نموذجا للحكم الديمقراطي في المنطقة، تحولت إلى حكومة استئثار حزبي وطائفي أضر بالعملية السياسية، وإلى التفريط في ثروات العراق النفطية. لقد بلغت موارد النفط العراقية 100 مليار دولار العام الماضي، ورغم ذلك، فإن مرافق البلد كالكهرباء والصحة والإسكان تعاني من خلل كبير، حيث فقدت مئات الملايين في مشروعات وهمية، وتم استيراد أجهزة بمئات الملايين لا تعمل. وبذا جعلت حكومة العراق بلدها يحتل المرتبة الرابعة في قائمة الفساد بالعالم. ليس هذا فحسب؛ فهناك شواهد وأدلة كثيرة على أن حكومة نوري المالكي قد تحولت للعمل لصالح إيران، ويؤكد مسؤولون أميركيون أن إيران ضغطت باتجاه بقاء المالكي في الوزارة، عقب حلول حزبه في الترتيب الثاني خلال انتخابات 2010، وعلى الرغم من اتفاق شراكة وقعه المالكي مع الأحزاب الفائزة برعاية أميركية، فإن المالكي تنكر لتلك الاتفاقية، واحتفظ لحزبه بالمناصب الأمنية: الدفاع، والداخلية، والأمن الوطني، مما دفع مسؤولين أميركيين وأوروبيين إلى الحديث عن نزعته الاستبدادية، وخطر ذلك على مستقبل العراق السياسي. هناك شعور يزداد بأن المالكي الذي بات محسوبا على طهران، قد بدأ بالفعل في انتهاج سياسة إقليمية سلبية قد تقود العراق إلى نتائج كارثية، وبالتالي إلى تبديد ثروة البلد النفطية مرة أخرى. لقد اتخذ المالكي مواقف متوافقة مع المحور الإيراني - السوري خلال الشهور ال18 الماضية، وأطلق تصريحات عدائية وطائفية بحق رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، واصطدم برئيس إقليم كردستان مسعود برزاني. بيد أن موقفه من الانتفاضة السورية يعد الأكثر خطورة، حيث يرفض الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد عبر تدخل خارجي، رغم أنه جاء إلى منصبه بفضل التدخل الخارجي، علاوة على أنه في عام 2008 كان قد اتهم دمشق بالوقوف خلف الحوادث الإرهابية، التي كانت بلاده - ولا تزال - تشهدها. قبل عدة أشهر اعترف سفير سوريا السابق في بغداد، نواف الفارس، أن بلاده كانت، وبالتخطيط مع طهران، تمول وتسهل دخول الإرهابيين إلى العراق لتقويض التجربة العراقية. على الرغم من ذلك، فإن حكومة المالكي سعت ومنذ اندلاع الأزمة في سوريا إلى مساعدة الرئيس بشار، فقد غض الرئيس العراقي الطرف عن الجسر الجوي الإيراني فوق بلاده لمساعدة النظام السوري عسكريا ولوجستيا، وأغلق الحدود أمام اللاجئين السوريين، بل، وبحسب تقرير نشرته جريدة «فايننشيال تايمز»، فإن حكومة المالكي تقوم بإرسال «شحنات وقود شهرية إلى النظام السوري لمساندته في قتال المتمردين في سوريا» (8 أكتوبر/ تشرين الأول 2012). وتؤكد مصادر عراقية أن عشرات المقاتلين من بعض الجماعات الشيعية المتطرفة قد عبروا في الشهور الأخيرة إلى سوريا للقتال إلى جانب قوات النظام السوري. («رويترز» 16 أكتوبر) في الوقت الذي ينتظر فيه العراقيون أن تعود عليهم الواردات النفطية بمستوى عيش أفضل، فإن المالكي - على غرار ما كان صدام يفعل - يسعى لكي يحقق التوازن الإقليمي كما يراه بالتحالف مع طهران، وربما لأجل ذلك قام بزيارة مؤخرا إلى كل من روسيا والتشيك، ليبرم صفقات أسلحة بمليارات الدولارات. من حق العراق أن يشترى السلاح الذي يمكنه الدفاع عن حدوده وأرضه، ولكن كيف يستقيم ذلك مع الواقع المعيش السيئ للملايين من مواطنيه الذين لا تتوفر لهم حتى أبسط الضرورات مثل المياه الصالحة للشرب. هناك قلق إقليمي، كما يجادل البعض، من تحول طهران إلى استخدام المالكي بديلا - أي تابعا - في حال سقوط نظام الأسد، وثمة مخاوف من أن يستخدم المالكي أموال العراق لتنفيذ تلك الأجندة. يقول المالكي، وهو مصيب: «المنطقة تعيش اليوم موجة خطيرة من التحديات؛ جذورها الحقيقية طائفية.. ما ينفق عليها من أموال هي جميعها لأهداف طائفية». كلام صحيح، ولعله يبدأ بنفسه أولا.