إن التقنية التواصلية الحديثة كسرت الكثير من الحواجز بين الكاتب والمتلقي، وبات كثير من الكتّاب يتسابقون للتواصل مع جماهير القراء.. طريف عيد السليطي - المدينة السعودية من بين الثيمات الفكرية المتداولة في العقود الأخيرة، مقولة «موت المؤلّف»، والتي أبدعها المفكر الفرنسي المعروف رولان بارت، والتي تدل -من ضمن مدلولاتها الكثيرة- على انحسار دور الكاتب ليصبح مجرد صدى للنص الذي يكتبه، أو مجرد مشارك متواضع في عملية القراءة والكتابة التي لا يكتفي فيها القارئ بالتلقي، ولكن يشارك بفاعلية التأويل والشرح وتعديد المعاني، فيأخذ نص المؤلّف إلى مسافات أبعد وأشسع، ويبدع بدوره معاني فريدة كانت مضمرة أو صامتة في النص الأساسي. هذا الإبداع المتبادل بين القارئ والكاتب يثبت وجود التناص، أو كون المؤلّف نفسه، وما ينتجه من نصوص، ليس إلاّ حصيلة تفاعل جدلي بينه وبين ماضي النصوص الأخرى، وأن ما كتبه وأبدعه ليس إلاّ تركيبًا يحمل ركامًا من النصوص القديمة، فتزداد المسألة تعقيدًا بدورها حين ينضاف دور القارئ الذي لا يكتفي بمجرد التلقي كما أسلفت، بل الفعل والإنتاج أيضًا، ممّا يضيّق من سلطة الكاتب إلى أقل نطاق. ولو قمنا بمقاربة المقولة «البارتية» الآنفة مع واقعنا الصحفي والثقافي والتعليمي أيضًا، وسألنا سؤالاً صريحًا: هل للقارئ دوره الإبداعي في الإنتاج والمقاربة بما يوازي سلطة الكاتب الصحفي، أو الأستاذ والدكتور الجامعي؟ أم أن هذه المشاركة محدودة بسلطة القائل والمتكلم حصرًا، بينما يوشك أن يكون دور القارئ متلقيًا فحسب؟ وجوابي يحمل شيئًا من النسبية.. فأنا أعتقد بأن التقنية التواصلية الحديثة كسرت الكثير من الحواجز بين الكاتب والمتلقي، وبات كثير من الكتاب يتسابقون للتواصل مع جماهير القراء، كذلك فقد خفَّف كثير من الأكاديميين والأساتذة غلوّهم الأكاديمي وأصبحوا أكثر تقاربًا مع التلاميذ والطلبة، لكن هذا لا يعني انكسار الحواجز تمامًا، بل أكاد أقول إن هذا التقارب لا يزال في بداياته المتواضعة والمحدودة. والغريب أن سلطة الكاتب باتت تتحول بمرور الوقت لسلطة تقليدية.. فبات كثير من الكُتّاب يُحاصرون أنفسهم بأسوار الامتيازات، والخصوصيات، وصاروا يتسابقون إلى الظهور على الفضائيات تمامًا كنجوم الفن والرياضة. هذه الشهرة والنجومية تتناقض مع الفكرة البارتية القائلة بموت المؤلّف: فلئن كان المؤلف الغربي فقد امتيازه النخبوي بفعل صعود عقلية الجمهور إلى مستوى مشارك في الوعي والتأويل والتفكير والإنتاجية، فإن من مصلحة الكاتب العربي والسعودي أن يبقى هذا الجمهور محتاجًا إليه، ممّا يحوّر من مقولة بارت من «موت» المؤلف إلى «نجوميته». إنني لا أخفي اتفاقي مع بارت بشأن إيجاد صيغة تفاعلية وإبداعية بين النص ومتلقيه، وبين الكاتب والقارئ، وإن كنت لا أتسرّع بإعلان وفاة المؤلف والمسير بجنازته كما فعل بارت، بل أؤمن تمامًا بقدرة المؤلف والكاتب على البحث، وسبر أغوار الحقائق بما يتاح لديه من إمكانات فردية، وقدرات ذهنية تتفاوت بينه وبين الآخرين، بل إن تجميع النصوص وهضمها، والإضافة إليها لا تتم إلاّ عبر عملية «كتابة» و»تدوين» و»فرز» مستمرة، وهي عملية مستحيلة دون الإقرار بدور الكاتب! لكن المهم جدًّا في مقولة بارت إيلاء القارئ دورًا جوهريًّا في القراءة: وعدم النظر إليه على أنه تلميذ مؤدّب، وغير مشاغب، يكتفي فقط بالانبهار والترديد بإعجاب كل ما يصل لمسامعه أو نواظره من عبارات ملائكية مصدرها كاتبه الملهم. ومع الإقرار بضرورة المشاركة الإبداعية والجماهيرية في الكتابة والتواصل، وتعديد المعاني لتنبثق من رؤوس الجماهير بجانب الكتّاب والمؤلفين (الذين يفترض بهم أن يكونوا جزءًا لا يتجزأ منها) فإن من شأن هذه الصيغة التفاعلية أن تتسرب للمجتمع المدني نفسه، فلم تَعُد هناك موهبة خارقة لأفراد محدودين يديرون مجالاً معيّنًا مُدَّعين أنهم الأحق به لخبرتهم وثقافتهم، كما لا يكتفي أفراد المجتمع بالنظر لرموزه من المثقفين وغيرهم بصورة تخليصية، منتظرًا -وبكل سلبية- أن تنفك عقدته بيد غيره، وإنما أن تتحول الصيغة التفاعلية إلى مجموعة مبادئ ثابتة تحكم كل علاقة مبدعة بين الأفراد والجماعات.