نشأة مؤسسات المجتمع المدني، بدأت منذ تسعين عاماً، بلقاء السلطان عبد العزيز آل سعود بعلماء مكةالمكرمة للتشاور بالشكل الذي ينبغي لإدارة البلاد.. مؤكداً حرصه على الشورى، وإشراك جميع فئات المجتمع. وبعد هذا التوجيه السامي اجتمع الأعيان واتفقوا على انتخاب أعضاء المجلس الشورى الأهلي. هذا فحوى ما جاء في الفصل الثالث من كتاب جديد بعنوان “بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية" للكاتب المعروف محمد القشعمي. إنها مهمة عسيرة لا تخلو من مزالق لمن يريد أن يؤسس معرفياً لموضوع يفتقر للتأسيس. فمهمة التأسيس المعرفي وتوثيق البدايات لإحدى التطورات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية، هي مهمة صعبة وتحتاج جهود مضنية، وربما خارقة، إذا كان المؤلف شخصاً واحداً، فهي في الغالب مهمة مؤسسات ثقافية. لكن لا يكتمل فهم التطورات التي يشهدها المجتمع دون معرفة النشأة والبوادر الأولى وربط السياقات اللاحقة بها. وكثير من الكتابات والتنظيرات الاجتماعية، مهما كانت مبدعة، افتقدت للارتباط مع التاريخ المحلي، فبعضها غاص في المرحلية، وبعضها ضاع في العالمية، وأخرى إيديولوجيات تنظيرية معلقة في الهواء الفكري.. والكتاب الذي نحن بصدده هو من النوع الوثائقي التأسيسي الذي طالما أبدع فيه القشعمي، بما يتميز به من جهد دؤوب ومهارة في كشف المعلومات المنسية بين مبعثرات ملايين الأوراق من القرارات الرسمية، أو أخبار ومقالات الصحف أو حتى الرسائل الشخصية، أو من بين ثنايا رفوف المكتبات العامة والخاصة، ثم رصد المهم منها، وتنظيمها بطريقة منهجية؛ وأخيراً إيصالها للقارئ وكأنها عمل ثقافي سهل التحضير لأنها سهلة الفهم.. مقدمة الكتاب كتبها أستاذ الأدب العربي الدكتور مرزوق بن تنباك، وهي من أنجح المقدمات التي يمكن أن تجدها؛ ففيها تعريف بالمؤلف وطريقته في التأليف؛ ثم تناول لمواضيع الكتاب وتحليلها. وبعد تعريف المجتمع المدني يأتي فصل بعنوان “انتخابات مجلس الشورى، متى عرفتها بلادنا؟"؛ الذي بدأتُ فيه المقال، وفيها رصد للنشأة الأولى لمؤسسات المجتمع المدني.. وفيها أنه بعد مبايعة السلطان عبد العزيز ملكاً على الحجاز، عين، رحمه الله، ابنه الأمير فيصل نائباً له في الحجاز يساعده مجلس استشاري.. ثم أمر جلالة الملك عبد العزيز بتأليف هيئة تأسيسية مكونة من ثمانية أعضاء منتخبين من قبل ممثلين عن مدن الحجاز، كما أضيف إليهم خمسة أعضاء عيَّنهم الملك، وعين لهم رئيساً.. وفي الفصل الذي يليه يتم رصد بداية الروابط والنقابات، موضحا بعض نشاطات نقابات الحرف والصنائع، وظهور أول جريدة أهلية في العهد السعودي عام 1350ه (1932م)، وهي جريدة “صوت الحجاز" التي نادت في افتتاحية عددها الأول، بضرورة وجود رابطة أدبية في البلاد. بعد ذلك يأتي فصل “انتخابات أعضاء المجالس البلدية"، بادئاً بما كُتب في الصحف عن انتهاء دورة المجالس البلدية السابقة منذ عام 1371ه، وعن انتخابات المجالس اللاحقة. ثم فصل عن النقابات والغرف التجارية، عارضاً بعض ما كتب عن الدعوة إلى نقابة المطوفين والإشارة لنقابة السيارات. وفي هذا الفصل نجد عودة لموضوع المطالبة برابطة أدبية؛ وأيضا عودة لانتخابات المجلس البلدي بمكة. ثم فصل آخر بعنوان “الدعوة لإنشاء نقابة للصحفيين" بدأها بمقال للشيخ حمد الجاسر في جريدته “اليمامة" عام 1379ه. ثم يأتي فصل عن “انتخابات شيوخ الحرف والطوائف"، وهو أطول فصول الكتاب، وربما أكثرها طرافة، بدأها بإعلان جريدة الندوة عن “آخر موعد لانتخاب شيخ البنائين" عام 1379ه (1960م).. ثم إعلان عن انتخاب شيخ الحلاقين في جريدة الندوة، وعن انتخاب شيخ الحدادين.. بل وحتى انتخاب “شيخ مقشري الأسماك" كما أعلنت بلدية جدة (1380ه). وفي ذات السنة نجد تنوعاً في المواضيع.. من مقال عن الانتخاب والنظام البرلماني في جريدة اليمامة، ومقال عن التنظيم النقابي في جريدة القصيم، ومقال عن نقابة الصحفيين في مجلة الجزيرة.. وهكذا تمضي سلسلة مواضيع الانتخابات من الموجود منها كالمجالس البلدية والغرف التجارية، ومن استمرار الدعوة لنقابات جديدة كالدعوة لنقابة للصحفيين.. ودعوة جديدة لنقابة للطلاب السعوديين في الخارج.. وأخرى للعمال السعوديين في الداخل.. وتستمر الفصول في عرض بوادر مؤسسات المجتمع المدني من ظهور رابطة للطلاب (1381ه)، وانتخاب اللجان الرياضية، إلى انتخاب المجلس البلدي بالرياض لأول مرة (1384ه).. ثم فصول متفرقة منها عن توقف الانتخابات البلدية ثم آخر عن عودتها، وآخر عن انتخابات الأندية الأدبية. وخاتمة الفصول هي توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، باعتبار المرأة عضوا في مجلس الشورى، إضافة لأحقيتها في الانتخاب والترشيح في المجالس البلدية. أما ملاحق الكتاب فهي تحفة تاريخية لصور مقالات وأخبار وإعلانات قديمة طواها النسيان تمتد على ست وأربعين صفحة مذهلة، ومراوغة بين الحنين للماضي والتطلع للمستقبل.. مهمة الكتاب عظيمة وعسيرة لا تخلو من مزالق؛ لعل أولها هي صرامة المؤلف المنهجية في تغييب رأيه وتحليله للوثائق. فأنت لا تجد في الكتاب إلا وثيقة تلو وثيقة، لا يجمع بينها إلا التسلسل التاريخي، وكأن المؤلف غائب، إلا فيما ندر. مثلاً، لا تجد تحليل لوثيقة غريبة عن سياقها التاريخي ومدى تناغمها اجتماعياً آنذاك؛ هل هذه الوثيقة شاذة أم نخبوية أم رائجة اجتماعياً؛ ناهيك عن عدم إبداء الرأي فيها من ناحية دقة معلوماتها. كما أن صرامة منهج التسلسل الزمني طغى على مواضيع الفصول؛ فالمؤلف بعد أن جمع مادته رتَّبها زمنياً، ثم وضع لها عناوين غير زمنية في أغلب الحالات. وذلك أوقعه في إشكالات ربما عانى منها، وأبسط مثال فصل “انتخابات شيوخ الحرف والطوائف"، الذي حوى كل مؤسسات المجتمع المدني تقريباً؛ منتقلاً فجأة من وثيقة في موضوع إلى وثيقة في موضع آخر تربك القارئ.. فلو أن المؤلف وضع الفترة الزمنية كعنوان للفصول لتلافى هذه الإشكالية.. في كل الأحوال، الكتاب عمل رائع يحكي بالوثائق بدايات الرحلة السعودية مع مؤسسات المجتمع المدني بكل آلام المخاض وجماله، ينقلك عبر محطات تاريخية لذيذة ومؤلمة.. إنه مادة خام أساسية لمن يتناول مؤسسات المجتمع المدني في السعودية، وهو أيضا مادة طريفة ومشوقة لأي قارئ.. وفي كلا الحالتين هو كتاب مثير لإعادة التفكير وبداية تأمل جديد، وأمل جديد..