د. حمزة بن محمد السالم - الجزيرة السعودية ما كان للمسلمين الذين ولدوا في الإسلام وعاشوا في بيئة مسلمة أن يشيب أحدهم وهو جاهل في دينه، لولا ما زُرع في نفوس المسلمين منذ القرون الأولى بأنهم ليسوا بأهل لفهم دينهم وأنهم في حاجة إلى فقيه أو وسيط يكون بينهم وبين تطبيقهم لدينهم. والأدوات التي يحتاج إليها المسلم لفهم دينه يسيرة بسيطة كمستوى تعليم الحساب والجبر في الكتاتيب، ولكن بشرط عدم وجود الممانعة المسبقة. هذه الأدوات أدوات منطقية تُطبق على النصوص الشرعية الثابتة فتمنع من تأثير الهوى والثقافة والعادة عليها فتعزل استنباط الحكم الشرعي من أن ينحرف عن مراد الشارع الحكيم، فتظهر بذلك معجزات التشريع كما يقطع الخلاف والاختلاف. فعلى سبيل المثال: أحكام المعاملات وما يتعلق بها من بعض العبادات «كالزكاة» لا تتعدى في كونها إما وسيلة أو غاية. ومن الطرق المنطقية للتفريق بين الغاية والوسيلة هو استخدام الطريقة الهرمية. فقمة الهرم هو غاية الحكم الشرعي، وما دونه فهو من الوسائل. وأحكام الغايات لا يُقاس على نصوصها في تنزيلها على الحوادث المستجدة إلا بعلة منضبطة، وأما الوسيلة فيُنظر إلى حكمتها. فأحكام الغايات لا يُتساهل فيها بعكس أحكام الوسائل، وشاهد ذلك الرخص النبوية وفقه الفاروق عمر رضي الله عنه. وببعض الأمثلة المختصرة تتضح الأمور. فالزنا تحريمه تحريم غاية. وقد أدركنا ذلك لأنه لا يوجد أخص منه في هذا الباب وأشد تغليظاً في الحرمة، فهو في قمة الهرم. وأما تحريم الخلوة فهو من الوسائل. وقد أدركنا ذلك لأنها أوسع من الزنا حدوثاً وتطبيقاتها كثيرة متنوعة. وقد تستثنى الوسائل بنصوص الشرعية، كما يجوز فيها التخارج كحديث رضاع الكبير. فهي إذن محرمة ليس لذاتها بل لأنها وسيلة لغيرها من أحكام الغايات. فهنا يُنظر إلى الحكمة من تحريم أو إيجاب الوسيلة وجوداً وعدماً عند تنزيلها على الحوادث المستجدة، كفعل الفاروق مثلاً في سهم المؤلفة (فهي حكم وسيلة تجويز للوصول لغاية تحقيق الزكاة التي حكم وجوبها غاية). ومن طرق تمييز الوسائل عن الغايات أنه يصعب إيجاد علة منضبطة للوسيلة، وذلك بسبب اتساع تطبيقاتها، وأما الغاية فهي بعكس ذلك. فقد لا تجد لإحكام الغايات أي علة منضبطة بسبب ضيق تطبيقاتها. مثاله: تحريم الحرير على الرجال، فهو تحريم غاية لأنه لا يوجد حكم شرعي نصي متعلق به أعلى منه مرتبة وأضيق تطبيقاً. فلا يقاس على الحرير كل ناعم مثلاً ولا كل غالٍ أو مترف فهي علل غير منضبطة لا في الأصل ولا في الفرع ولذا لا يُقاس الحرير الصناعي بالطبيعي في تحريم لبسه على الرجال. ويُقال عندها هي علة قاصرة أو لكونه حريراً أو حكماً تعبدياً، فالألفاظ لا تهم إنما المقصود. ودوماً يجب الابتداء بإيجاد العلة أولاً أو عمها ثم بعد ذلك يُستأنس بالأمثال والأعراف والتعاريف. مثاله الرق، علته هي: كون الرقيق رقيقاً أي مقصوراً عليه فلا تُعرف علة منضبطة له، فلا يقاس الخدم أو العمالة على الرقيق بعلة الخدمة مثلاً. فإن ذلك يستلزم أن كل من لا يخدم من الرقيق فليس رقيقا وأن كل خادم رقيق وهذا ممتنع شرعاً وعقلاً. ثم بعد أن نقرر أن علة الرق قاصرة نبدأ بالاستئناس بهذه النتيجة فننظر إلى الأمثال والأشباه. ككون الرق هو جوهر الرقيق والخدمة طارئة وإن كانت غالبة إلا أنها ليست لازمة للرق. ورق الرقيق حقيقة، ورق الخدم وما شابهم اعتباري، وهكذا. لكن البداية والنتيجة بتنزيل الحكم على الحوادث المستجدة تقررها العلة لا الشواهد والأمثال. ولا يُستغرب أن يأتي أحد بمثل هذا القياس، فقد حصل مثله تماماً في قياس الأوراق النقدية على الذهب والفضة بعلة الثمنية في باب الربا، فأُخرج الذهب والفضة من الأموال الربوية إذ إنها لم تعد أثماناً، فهذا دليل بطلان العلة لانتفائها في الأصل، ثم الشواهد كثيرة كالذهب حقيقة والأوراق النقدية اليوم اعتبارية وهكذا. ما مضى كان مثالاً على بعض أدوات استنباط الأحكام التي على بساطتها تحل كثيراً من المسائل الفقهية التي تعقدت بسبب التراكمات الفقهية، وهناك بعض الأدوات الأخرى التي لو دُرست للجيل الجديد وتمرسوا في تطبيقها في ممارستهم لشعائر دينهم لانتشر العلم الشرعي بسرعة وأصبح غالب المسلمين أفقه من كثيرٍ من الفقهاء عبر القرون، وما عاد هناك حاجة إلى مجلدات في حكم المسح على الخفين. إن تأكيد القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام على كوننا أننا أمة أمية فيه إشارة واضحة لتجنيب الأمة اتباع خطى اليهود والنصارى في تجهيل العامة واحتكارية الدين في رهبانهم وأربابهم. ومن المسكوت عنه في هذا الباب إن الدعوة إلى التعلق برجال الدين وحصر فقه الدين عليهم هو مما تأثر به المسلمون من احتكاكهم باليهود والنصارى كالإسرائيليات والتصوف الغالي والغيبة وغيرها.