يتصف الشارع السعودي بعلو كعب لغة الإحباط، وانتشار المفردات التشاؤمية، حتى قصص النجاح الفردية متشبعة بانكسارات بعضها يبدو «كباقي الوشم على ظاهر اليد»، وتصبح النتيجة كطعام فاخر لا ملح فيه، ويتهافت عليه عيون الحساد كذباب. وحدهم فقط أبناء قبيلة العمولات والسمسرة العقارية يحققون مغامرات مبهجة، بينما شريحة عريضة من موظفي الحكومة الجالسين على طاولات فاخرة يحققون مكاسب مالية ومعنوية من «تحت الطاولة» أكثر مما يجنونه من العمل عليها. تسيطر عقلية اليأس على كثير من السعوديين، هذا ما جناه عليّ جلوسي في المقاهي واتساع حوض أذني، الناشط «كدش» يلتقط إشارات إرسال من كل الطاولة القريبة، النتيجة طاقة سلبية تحاصرني حتى أثناء وقوفي عند مخبز «التميس». يؤدي الإحباط إلى خمول جماعي، ضمور في أدوات التفكير والتجريب، ثم نصبح مجرد أموات نعمل حتى لا ندخل السجن بسبب شيكات من دون رصيد، أو حتى لا نموت عطشاً وجوعاً، موت الأمل أكثر قتلاً من موت الجسد، فكثيرون يعيشون بطالة مقنعة، نتمسك بوظائفنا «ليس لأنها تمنحنا حياة مهنية مميزة» بل تطبيقاً لوصية الأجداد «امسك قردك لا يجيك أقرد منه»، النتيجة كل موظف يصبح قرداً، «يتنطط» كل صباح. تتحمل جهات رسمية حصة كبرى في صناعة الإحباط، لا أحد يقول إنها تتقصد ذلك، لكنها مصدر أساسي له. يأتي مصدر الإحباط الآخر من العقل التنفيذي المغروس في أجساد كبار وصغار موظفين متحمسين جداً للتدثر بثياب «الأمر والنهي»، وتطبيق تفسيرات خاصة بهم للقوانين والأعراف، وكأنهم يمارسون «برمجة انتقامية» من صغار الموظفين والمواطنين. يضع كثير من السعوديين أصبع السبابة عند حنجرته ويصرخ «هذا ناشب لي هنا»، عندما يكون الحديث عن مديره المباشر، والمدهش أن النساء المتقلدات منصب مديرة أشد شراسة من الرجال، وعطشاً لممارسة «سلطوية» نتنة ضد بنات جنسها العاملات تحت يدها، ذلك يحدث حتى في مؤسسات القطاع الخاص.حقق السعوديون إخفاقاً كبيراً في ممارسة أدوار «المدير»، وشاركوا في اتساع مستنقعات إحباط مهني لملايين الموظفين، فمسارات حياتنا المهنية تشبه إلى حد كبير طرق مدننا، فإما أن يكون الطريق مغلقاً، أو حفريات تتكرر بشكل موسمي، ثم إن انعدام التقدير المعنوي داخل مؤسسات الحكومة والقطاع الخاص أصبح صفة أساسية في أخلاقيات المدير، لا شك أن الاستثناء متاح، لكنه نادر جداً. تشبه الوظيفة حالياً التورط بزوجة عالية الجحود، محاولة التعايش معها مجهدة، وتطليقها لا يضمن الاقتران بمن هو أفضل منها، فيما الهرب لدول خليجية مجاورة من أجل بيئات عمل نظيفة لن يتوقف خلال السنوات المقبلة، لأنه هروب من بيئة تمنحنا إحباطاً أكثر من قيمة المعاش الشهري. يصبح المعاش الشهري جزءاً حقيقياً من عوامل الإحباط لأنه يشبه ثوب اليتيم، ممزق، متسخ، قصير، حتى لا تكاد تصحّ به الصلاة، فالدور الحقيقي الوحيد للراتب هو منعنا من التسول على قارعة الطريق، كما أنه مجرد حبيبات من عرقنا، نجمعها ونسقيها إلى ملاك العقارات، ووكالات السيارات، وأيضاً البنوك، فهؤلاء لا يرتوون إلا عندما يشربون ماء وجوهنا وعصير أجسادنا. ينبت الإحباط على شواطئ المجتمع بتزايد يومي، تماماً كنمو الطحالب، يحاصرنا، ويمنعنا من السباحة مهنياً، حتى رجال الأعمال، وعلى رغم وفرة المال لا يجدون بيئات استثمارية تشبع شغفهم نحو تحقيق قصص نجاح من دون منغصات، تلاحقهم لعنات الرشوة والابتزاز أينما طرقوا باباً، وكذلك اتهامات بأنانية استثمارية، لكن التفتيش بدفاتر أحلامهم يكتشف أنهم مساكين، محبطون، وليس في أيديهم إلا حيلة العاجز. يؤثر الإحباط المهني، وانسداد طرق النجاح المهني على الجنس، طعم الأكل، ساعات الفراغ، ويزيده «سماجة» رؤية آلاف العاطلات والعاطلين الطامحين بتحقيق ذات، مشوار يبدأ بحلم وينتهي بأكوام من اللحم تتناثر على طاولات خشب ترتفع قيمتها بكثير عن قيمة الإنسان العامل عندما يصبح ضحية جديدة لثقافة إحباط باتت جزءاً من منهجية الحياة.