حمى تسري في المؤسسات الحكومية لإنشاء وحدات المراجعة الداخلية، حمى تذكرني بتلك التي ظهرت مع طفرة النفط الأولى ومشاريع السعودة في المؤسسات الحكومية وفق قانون ""التوظيف كيفما اتفق"" - المهم سعودي. وانتهينا اليوم إلى توظيف التاريخ في البلدية والجغرافيا في المحكمة وعلم النفس في مصلحة المياه والشريعة في الأرصاد والمهندس عاطل والإدارة العامة والأعمال ينافس على وظيفة حارس أمن. اليوم عادت الحمى نفسها مع الضغط المستمر لتعيين موظفي وحدة المراجعة الداخلية التي أقرها مجلس الوزراء منذ سنوات، والمشكلة أن هناك ندرة فعلا في المؤهلين لمثل هذا المنصب أضف إلى ذلك الحوافز غير مشجعة مع ضغط الطلب عليهم في القطاع الخاص. هذا ما حدا ببعض الجهات إلى تأخير تنفيذ القرار وأنا أؤيد هذا التأخير بدلا من الرضا بأضعف الإيمان. فمن المؤلم أن نجد تخصص إعلام أو تاريخ وآثار أو حتى إدارة عامة وحصل على وظيفية مراجع داخلي ووقفت فعلا على ذلك. وليس في هذا تقليل من هذه التخصصات بل لها احترامها في مكانها، لكن لخطورة هذا المنصب وأهمية التأهيل العلمي والمهني فيه فلن يستطيع إلا متخصص مؤهل أن يقوم به وإلا حدث خدش كبير جدا في أدائه واستقلاله، وبالتالي صدق تقاريره. ومع ذلك فإنني من خلال عدد من الحوارات مع من تم تعيينه أو ترشيحه لهذا المنصب قد وقفت على عدد من التحديات التي تواجههم لبدء مهامهم أوردها في نقاط. أولا: تنبه من حب مدير المشتريات، ومن أعراض هذه المحبة الجديدة الحرص المفرط على راحتك، فيبادر بشراء الأثاث الخاص بمكتبك دون أن تطلب منه، بل بتوجيه كريم من مدير الشؤون المالية والإدارية وتأمين الأجهزة اللازمة التي تعينك على تنفيذ مهامك، وهذا مقبول شكلا، لكنه يُظهر حبا أكثر من اللازم، بل مبالغ فيه على وجه الحقيقة. فتجده من فرط محبته يقوم بتأمين مكتب بقيمة 30 ألف ريال، وكذلك الحاسب الآلي وملحقاته ب 15 ألفا، ويجب ألا تظهر عليك المفاجأة إذا وجدت سيارة بقيمة 200 ألف ريال، بل حتى ما يلزمك لدورة المياه وكل ذلك من خلال التعميد المباشر. الفخ في هذه المحبة المفرطة أنها تفقدك استقلالك الذهني تماما، حتى قبل أن تستقر في مكتبك، فإذا رضيت بمثل هذا الترف - وغالبا سترضى فأنت مدير إدارة المراجعة - فإن عليك غض الطرف عن ترف وإسراف في مجالات أخرى، وكلما نازعتك مهنيتك لتعترض وترفع الملاحظات تذكر قيمة مكتبك وترفه وسترضى بحجة الأسعار التي كالنار في هشيم المال العام. ثانيا: تنبه من حب مدير شؤون الموظفين، ومن أعراض هذا الحب المفاجئ أنه يأتي بشكل رائع وفي ملف مفتوح به خطاب مؤدب يوضح لك أنه قد تم تخصيص ثلاث وظائف لإدارتك وأنه بحكم تخصصك وبحكم معرفتك بمن ترغب في أن يكون معك، لذا فإنه سيعطيك حق ترشيح من ترغب وكل ما عليك القيام به هو إرسال ملفاتهم إليه وسيقوم هو بتعينهم فورا. بالطبع لن تجد فرصة أفضل من هذه لتعيين ابن أخيك الذي طالما ألح عليك بعد أن أمضى خمس سنوات بلا وظيفة، وكذلك ابن فلان وفلانة، علك ترتاح من طلباتهم، هذا إضافة إلى شعورك الغامر بالقوة وأنك تستطيع تعيين من تشاء في هذه الإدارة، وسيدغدغك شعور واهم بأنك حريص على أن يكون معك من يفهمك ويقدر أوامرك، وهذا عذر مقبول، لكنه فخ من مدير شؤون الموظفين. فإذا قبلت به فلن تستطيع الاعتراض لماذا مدير إدارة كذا قام بتعيين فلان ورفض فلانا، لماذا لم تتبع الإجراءات الإدارية اللازمة للتعيين؟! ولماذا لم يكن هناك إعلان وظيفي! ولماذا لم يتم ذلك أو هذا! وهنا ستعرف – وفي أسوأ الأحوال سيقال لك - إنه تم تجاهل جميع هذه الإجراءات معك أيضا فكيف انتبهت لهذا الآن وبدت لك كملاحظة. ثالثا: تنبه من محبة مدير الشؤون المالية الذي سيعمل جاهدا على زيارتك كل يوم ومناقشتك في كل صغيرة وكبيرة وسيأتي مرات ومرات، أولاها لتهنئتك بالمنصب وطبعا ستقوم بدعوته على فنجان من الشاي وليبدأ النقاش ""الودي"" حول التعاون المشترك والهم المتساوي والأمانة على المال العام. سيأتي مرات أخرى لمناقشتك فيما قلتم حتى تصبحوا أصدقاء أمام الجميع الذين عليهم ملاحظة مدير المراجعة الداخلية مع مدير الإدارة المالية يتضاحكون ثم يتهامسون حول أمر لا يعرفه أحد. إنه فخ من نوع مختلف ذلك أنك لن تستطيع أن تقنع الإدارة العليا بسلامة تقريرك والملاحظات وستصبح محل شك كبير فيما لو حصلت مخالفات ولم تكتشفها، كما أنك ستضطر - وهنا المشكلة - إلى مناقشته ملاحظاتك ""بود كبير"" مع المدير المالي الصديق في كل مرة وقبل رفعها للمدير العام، وسيكون له ""وبشكل ودي كبير"" تخفيف بعض العبارات. رابعا: تنبه من محبة كل هؤلاء ومن محبة مدير الشؤون المالية والإدارية الذي سيعمل جاهدا على أن يكون مكتبك قريبا منه، وذلك لحرصه على بقائك ضمن هذا المستوى الإداري الرفيع في المؤسسة. مثل هذا الإجراء سيطريك فعلا، ذلك أنه يمنحك شعورا جميلا بالمستوى المتساوي مع مدير الشؤون المالية والإدارية، كما أنك أصبحت في مستوى متخذي القرار. هنا ستظهر أمام الجميع وكأنك جزء من إدارته وأنك تحت سيطرته وإذا أضفت إلى كل ذلك محبة المديرين الباقين وحرصهم على بدء إثنينية وثلوثية واستراحة نهاية الأسبوع فإنه لم يعد لديك مانع كبير من بعض المجاملات. فإذا أضفنا إلى كل ذلك أن المراجع الداخلي يتبع مدير عام المؤسسة (أيا كان منصبه) وأنه تحت رحمته في التعيين والترقية والنقل فإنك ستعرف حين تنكشف بعض المخالفات الجوهرية والخطيرة معنى قول الشافعي: وأجلس وحدي للعبادة آمنا أقر لعيني من جليس أحاذره