قوة الدول ونماؤها، وانضباط مؤسساتها والتزام مواطنيها، مرتبط بالهيبة، هيبة الدولة تزيد القانون مهابة، وتعطي الأنظمة منعة، وترفع شأن المؤسسات، وتعلي مكانة المواطن، وأي اعتداء على هذه الهيبة أو تخطي الأعراف الحاكمة للتعامل الإداري بين مَنْ يحملون مراتب الدولة العليا يُعتبر استهدافاً بجهل أو تجاهل لهيبة الدولة، ومحاولة لتقويض المصداقية، وزعزعة أركان الثقة بين المواطن وصناع القرار، وهذا - بلا شك - جريمة بحق الوطن. سمعنا ما قاله عبدالمحسن العبيكان، وعرفنا - ربما - ونحن نستمع إليه فضل الحِكْمة، وحال من يكشف الله ما فيه من جهل ضد الحِلْم لا ضد العِلْم، وكان مثالاً لمن يسقط بإرادته من المنارة الشاهقة، بعد أن فقد التوازن وهو يسير بلا هدى على حبال المصلحة الشخصية، معتقداً أنه سيحظى بالمكاسب، وليستعيد مكانة فقدها عند من يستطيع الضحك على عقولهم من المتحمسين بجهالة، وإيهامهم بأنه رجل المثاليات برفع الشعارات الطنانة، التي رفعها قبله مَنْ حاولوا التمادي في اللعب على الوتر الحساس، ومكانهم اليوم في السجون، ليس بسبب آرائهم، ولكن بسبب عملهم المباشر أو غير المباشر ضد أمن واستقرار الدولة. كثير ممن دافعوا عن العبيكان، وانتقدوا مَنْ وقفوا بوجه كلامه الخطير، وحاولوا إبقاء قضية العبيكان في دائرة صراع التيارات! وهذا أمر في غاية الخطورة؛ لأن الوقت الذي نمر به لا يحتمل قراءة المشهد كما كان يُقرأ في السابق، ويجب أن ندرك أن هناك من يعملون بشكل ممنهج ومدروس لتقويض هيبة الدولة وتعكير صفو السلم الاجتماعي وخلق أزمات، بادعاء أمور لا وجود لها وصناعة “فزاعات”، توجِد لهم مكاناً ومكانة. السيد العبيكان - مع احترامي له - ليس له أي تأثير في أي وسط من الأوساط اجتماعياً أو علمياً أو مهنياً. وكونه موظفاً حكومياً فهذا لا يعكس توجهاً فكرياً معيناً، كما لا يلزمه بتوجُّه معيَّن، ونعلم أن الآراء داخل المؤسسات الشرعية تتمتع بالاستقلالية. وبما أن العبيكان يحمل مرتبة حكومية، ويقدم استشاراته بحكم مهام عمله، فهو ملزم بتأدية الأمانة الوظيفية، وتقتضي هذه الأمانة - وفي إطار الحرية الكاملة التي يحظى بها هو ومماثلوه - أن تُقدَّم النصيحة والمشورة المنسجمة مع المصلحة العامة، وفي الشكل والمضمون المتوافقَيْن مع آداب وضوابط الشريعة الإسلامية. كما أنه لا يُسمح له ولا لغيره ممن نالوا الثقة أن يتحدثوا في الإعلام عن أي تعاملات إدارية أو مهام وظيفية أو عقبات إنْ وُجدت؛ فهذا إفشاء لأسرار مؤتمن عليها، كما لا يجوز له بصفته الوظيفية إبداء الرأي الإداري إلا داخل أروقة المكاتب الحكومية وفق الأنظمة المعمول بها، وأي خرق يوجب اتخاذ إجراء تأديبي، وهذا لا يخالف مبدأ الشفافية، بل إنه من قواعد العمل الحكومي في جميع دول العالم. لا يقبل المجتمع السعودي من العبيكان أو غيره الانتقاص من هيبة الدولة، والتحدث عن رمز البلاد بأي شكل من أشكال التمادي اللفظي المستفز المغلَّف بعبارات لا يخفى علينا مقاصد استخدامها، وعليه أن لا يبيع علينا المثاليات التي تعريه وتكشف ضعفه واضطرابه. وبعد الإعفاء من المنصب الحكومي أتمنى عليه أن لا يسرف في تمثيل دور البطل؛ فأوراقه ومطامعه باتت مكشوفة، وخصوصاً بعد انتهاء حُلْم توليه رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ونحن لنا في الظاهر من قول أو فعل، وعسى أن يعود إلى رشده ويدرك خطورة ما قال؛ ففي داخله بالتأكيد مواطن مخلص لولاة الأمر وللوطن. نحن في بلد يحترم العلماء الكرام، ولا مجال فيه للمزايدات الرخيصة التي يطلقها أشباه العلماء وأنصاف الفقهاء وأدعياء العلم الشرعي، ويجب أن يعلم هؤلاء أن الملك وولي عهده خط أحمر، وهيبة الدولة منزهة عن المتلونين. حرية الرأي مكفولة للجميع، وبإمكان صاحب الرأي أن يطرح رأيه الذي ربما يخالف رأي الحكومة، أو ينتقد توجهها في أمر معيّن، ولكن يتم هذا تحت ظل الدولة، ومن دون المساس بالثوابت الوطنية، ولا يكون مُطْلِقه طامعاً في المنافع الشخصية.