كثر الحديث عن الفساد والمفسدين ليأخذ حصة من كل نقاش، وضاع وسط الرغبة العامة في مكافحة الفساد المالي والإداري والنهوض للمفسدين شخوص تعتز بها هذه البلاد وكل بلاد الدنيا. وسط زحمة الحديث عن مكافحة الفساد، وهي زحمة مبررة تلهج بسؤال ملح: من أين لك هذا؟ ثم لا تأتي إجابة، فيبقى السؤال معلقاً صامداً بانتظار إجابة.. أقول: وسط هذه الزحمة وريثما تأتي الاجابة، لابد من استذكار عصاميين صنعوا لأنفسهم أسماء وأمجادا رغم أن الحياة لم تستقبلهم ولا حتى بمعالق بلاستيكية! هؤلاء لم يوظفوا الصعوبات التي واجهتهم كمشاجب بل واجهوها بعناد وصبر وأحياناً بابتسامة لا تخلو من تحد. أعرف من ولد يتيما وتربى في بيت زوج أمه، وحفر الصخر وصادف نجاحاً واسعا بعد عقود من الكد والكدح..لتأكل الخسائر ثروته برمتها إلا ما يسد رمقه..ليعاود من جديد، وبالفعل عاد من جديد من بقايا الرماد أو فتات ثروته الفائتة. وآخر بدأ في دكان صغير يبيع قطع غيار السيارات ليصبح بعد عقود من الجد والعمل والمغامرة المحسوبة في مشاريع.. هؤلاء وغيرهم عانوا من صعوبة الحياة وظروفها، وكابدوا من إعاقات الفساد، ولعل بعضهم خسر صفقات أو مكاسب أو فرص نتيجة لذلك.. لكنهم لم ينثنوا؛ لم يثنهم الفشل، ولم يثنهم القهر، ولم يثنهم طمع المتربصين بهم، وقبل ذلك لم تثنهم صلافة الحياة وتجهمها ليصبح رجل أعمال بفكر نير يعجن المسئولية الاجتماعية مع استثماراته عجناً، فلا حاجة له لربح يأتي من سحت أو مص لعرق آخرين.. وثالث، ترك بلدته وهو طفل هائما على وجهه في الغربة، ليعمل فنياً يجمع بين مهارته في عمله ومثابرته عليه وذرابة لسانه وملاحة شخصيته وربط العقد بالعقد حتى غدا مقاولاً يشار له بالبنان. ورابع، ترك قريته ليعمل وهو طفل قاصر في الغربة فيتعرض لأهوال وصعوبات.. لكنه قطع على نفسه عهدا رغم صغر سنه أنه لن يعود بفقره إلى والديه وأنه سيبقى هائما حتى يغتني.. وتحقق له ما أراد، وترك مالا ورجالا يكملون مابدأ. كل هؤلاء وغيرهم عانوا من صعوبة الحياة وظروفها، وكابدوا من إعاقات الفساد، ولعل بعضهم خسر صفقات أو مكاسب أو فرصا نتيجة لذلك.. لكنهم لم ينثنوا؛ لم يثنهم الفشل، ولم يثنهم القهر، ولم يثنهم طمع المتربصين بهم، وقبل ذلك لم تثنهم صلافة الحياة وتجهمها..لن أسمهم وهم لن يقبلوا ذلك..لكني درجت أن أقبل رأس كل منهم عندما أصادفه ليس فقط توقيراً لعمره بل كذلك لكونه قدوة يشع طاقة إيجابية طاردة للإحباط وللفساد وللمفسدين.. وتنشر الأمل بأن أهم ثروة هذه البلاد هي هؤلاء الأفذاذ من أبنائها والذين يلونهم..