لا نستطيع تجاهل الواقع السياسي الذي يتبلور الآن في العالم العربي، سواء أعجبنا به أم كرهناه. الربيع العربي مثل كل ثورة أخرى في العالم ولد معادلات جديدة ومنظومات قوى مختلفة عن تلك التي سادت قبله. بعض هذه التحولات مريح وبعضها مزعج وبعضها مفاجئ ومدهش. لكن أيا كان الحال، فإن جوهر عمل السياسي هو إعادة تدوير الزوايا الحادة واستظهار خيوط المصلحة التي ربما تخفى على الناظر المتسرع. يعرف أهل السياسة، أن الاستقرار والسلم الأهلي مؤسس على أرضية التداخل بين مقومات الأمن الوطني والأمن الإقليمي. ومن هذه الزاوية فإن العلاقة مع المجتمعات المجاورة والحكومات المؤثرة في النظام الإقليمي هي جزء أساسي في مركب الأمن الوطني والسلم الاجتماعي. العلاقة مع الجيران والمؤثرين قد تؤسس على مبدأ توازن القوة أو على مبدأ التعاون أو الشراكة. والمؤكد أن المبدأ الثالث هو الأفضل والأكثر فائدة وفاعلية على المدى البعيد. حين أقرأ صحافتنا اليومية أو أستمع إلى تعليقات المتحدثين في القنوات التلفزيونية، يخيل إلي أننا نعيش في زمن غير طبيعي. نحن نتحدث عن الحكام الجدد في العالم العربي كما لو أننا على وشك الدخول في حرب معهم. قال أحد المعلقين هذا الأسبوع إن الإخوان المسلمين هم الجناح السياسي لتنظيم القاعدة. وكتبت سيدة مقالا فحواه أن الحكومات الجديدة قامت على الخداع والتزوير وما يشبه هذا الكلام. لن أتوقف عند هذه التعبيرات، فهي ليست مؤثرة في سياسة البلد وتوجهاتها. لكني أشعر بأن إعلامنا المحلي وشبه المحلي يميل إلى تكريس صورة كريهة ومنفرة عن الأوضاع الجديدة من حولنا. قد يكون هذا الإعلام معبرا حقيقة عما يعتمل في نفوس بعضنا. لكنه في نهاية المطاف لا يعبر عن مصالحنا الراهنة والممكنة. نحن في حاجة إلى إحياء المنهج التصالحي الذي اتبعته المملكة في أزمان سابقة. المنهج الذي يركز على ترميم الجسور وإعادة بناء الثقة المتبادلة وإرساء علاقات متعددة الأبعاد والاتجاهات مع كل من يتأثر بنا أو يؤثر فينا. إني أدعو دون تحفظ إلى تنشيط العلاقات التي تبدو فاترة مع النخب الجديدة في اليمن والعراق وتونس ومصر، كما أدعو إلى رفع مستوى علاقاتنا مع السودان والجزائر وباكستان، ولا أنسى ضرورة فتح نقاش جدي حول العلاقة مع إيران. أيا كانت المعطيات التي نراها، وأيا كانت انطباعاتنا عن تلك النخب والتحولات، فإن مهمة السياسي ليست الفرجة على تداعي العالم من حوله، بل البحث عن الخيوط الخفية أو الممكن تخليقها، وهي مهمة لا يعرفها غير المحترفين. ليس في السياسة مستحيل، وليس فيها عواطف. الحب والكره، الرغبة والنفور، أشياء يقولها الناس فيما بينهم، لكنها عند أهل السياسة مجرد تعبيرات خفيفة أو خالية من المعنى. للسياسي صديق واحد هو مصلحة بلده. هذه المصلحة هي الخيط الذي ينبغي للسياسي أن يبحث عنه في أكوام الفوضى والعواصف التي تهب علينا شرقا وغربا. نحن بالتأكيد في حاجة ماسة إلى تصور جديد ونشاط جديد.