التقليعات الفكرية كتقليعات اللباس والأزياء، تفتن الناس فترة من الزمن ثم يرفضونها أو يملونها، أو تظهر موضة أقوى ليركبوها، وخاصة الشباب، وهكذا يقضون حياتهم، لا أرضا قطعوا ولا ظهرا أبقوا كانت هناك هزة فكرية قوية لكثير من الشباب الذين كانوا يعيشون في كنف الصحوة الإسلامية، تلك الهزة جاءت نتيجة لعدة أسباب، لعل من أهم تلك الأسباب: الصراعات التي وجدت بين عدة تيارات داخل العمل الإسلامي والدعوي، ثم جاء الانفتاح الثقافي الذي سبق بوقت قليل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فظهرت عدة موجات فكرية أو موضات وصرخات ركبها الكثير من الشباب، وسببت انشقاقاً وانفصاماً حاداً في المشهد العلمي والدعوي، وكانت أولى تلك الموجات الفكرية: (العقلانية) التي أخذت جدلاً طويلاً، واعتمدت في حركتها الفكرية على مقررات الفكر العربي العقلاني النهضوي، وخاصة فكر محمد عابد الجابري، وأركون، وفهمي جدعان وغيرهم من المفكرين العروبيين، ولكنها سرعان ما تلاشت لتظهر بعدها فكرة (التنوير) الذي حملها مجموعة من الشباب الخارجين من عباءة الجماعات الإسلامية، وخاصة الإخوانية منها، فكانت الفكرة "التنويرية" هي مزيج بين الفكرة الإخوانية وأفكار حركة النهضة العربية، ممزوجة بأفكار بعض المفكرين المحدثين أمثال محمد سليم العوا، ويوسف القرضاوي وغيرهما من الدعاة الإسلاميين. أعقب فكرة التنوير- التي كان جزء من همها الفكري والثقافي نقد الدعوة السلفية وتقديم رؤى جديدة تتعلق بالسياسة والمجتمع المدني مع صلتها بخيط رفيع بالطرح الإسلامي – الفكرة "الليبرالية" التي تشترك مع سابقتها بنقد الدعوة السلفية وتبني الفكرة "الغربية الحضارية" بشكل صريح، إلا أنها لا تعتمد على خلفية إسلامية، بل هي حركة تفاصل الدعوة والفكرة الإسلامية، وإن كان بعض أتباعها يقررون عدم تعارض أفكارهم بالفكرة الإسلامية، ولربما كان ذلك من تأثير البيئة والتصاقها بالطرح الإسلامي وطبيعة المجتمع السعودي، وتأسيس النظام السياسي الأساسي على الشريعة الإسلامية والتي لا تسمح بالمصادمة الصريحة للتعاليم الإسلامية. وقبل "الثورات العربية" تقارب الفكر التنويري مع الفكر القومي والليبرالي بحيث لا تستطيع التمييز بين طرح هؤلاء وهؤلاء إلا بمعرفتك فقط بتاريخية وسيرة الأشخاص، ثم لما جاءت الثورات العربية امتزجت هذه الأفكار حتى أصبح التفريق سهلاً، بل وصل الحال ببعض التنويريين إلى المبالغة في طرح بعض الرؤى السياسية التي كان بعض الليبراليين يخجلون من التصريح بها، وخاصة فيما يتعلق بالسيادة الشعبية وأولويتها على غيرها. أما الحديث عن "الاستبداد" والذي هو الموضة الدارجة في هذا الوقت فلم تكتف هذه التيارات في الحديث عنه، بل أصبح بعض المفكرين الإسلاميين السلفيين يرددون هذه الكلمة كورد يومي في تغريداتهم وخطاباتهم الدعوية ومحاضراتهم، وأصبح كل شخص من هؤلاء "كواكبيا" جديدا، علماً بأن الدعاة في السابق كانوا يعتبرون الكواكبي أول من أصل الفكرة العلمانية في الطرح العربي الحديث، فالتقت التيارات على أمر قد قدر، وخاصة حين بدأت حدة التيارات الدعوية السلفية – خاصة – تتقارب مع الفكرة الديمقراطية، وإن كانت تعتبرها ضرورة مرحلة، إلا أنها بدأت تعيد التفكير جدياً فيها، ولا أستبعد أن تكون هي روح الشريعة وأقرب مثال للحكم الراشدي عندهم بعد أن كانوا ينتقدون التنويريين في تقريرات كهذه. الغريب في هذه الموضات أنها تتفاعل مع الوضع السياسي العالمي وتتلاشى مع تلاشي القوى المهيمنة، فقد كانت الأفكار اليسارية والشيوعية في يوم من الأيام سائدة في العالم، وكانت تمثل روح التقدم وتطلعات الشعوب، ثم ظهرت في أعقابها فكرة التقريب بين اليسار والإسلام بمزيج غريب سمي ب(اليسار الإسلامي)، وهو الآخر قد تلاشى واضمحل، وأصبح الذي يردد أي فكرة اشتراكية أو شيوعية هو في حالة سخرية شديدة من أصحاب هذه الأفكار جميعا، مع أنها كانت في يوم من الأيام تعرض على أنها إكسير الحياة ومنقذة البشرية جمعاء. والغريب كذلك في هذه الأفكار أن أتباعها يحملونها بوثوقية شديدة، وقطعية مبالغ فيها في الوقت الذي يؤصل جميعهم إلى نسبية الحقائق، وتعدد وجهات النظر، وكأنهم في لحظة الحماس تلك يتلفتون إلى النظر في الموجة التالية لركوبها ونسيان ما قبلها.. إن كل لحظة من لحظات هذه الموجات تنال من قضايا كبرى كانت في يوم من الأيام حمى لا يؤتى، وقدسية لا تنالها الأيدي، وقد يتنبه بعض الأتباع في أثنائها ليعودوا إلى رشدهم، وقد ينساق البعض حتى يخرج عن الأطر المعقولة إلى أفكار متطرفة تصل في أحيان إلى رفض الشريعة أو الإلحاد أو الانزواء التام والإحباط الشديد. إن هذه الموضات الفكرية لا تبعد عن موضات اللباس والأزياء، فهي تفتن الناس فترة من الزمن ثم يرفضونها أو يملونها، أو تظهر موضة أقوى ليركبها الكثير وخاصة الشباب، فيقضي حياته متنقلاً بين الأفكار، وفي كل مرحلة منها تراه متحمساً لها أشد الحماسة حتى لو وصل الحال به أن يرفض مجتمعه أو أصدقاءه، وكأن كل مرحلة هي الضالة المنشودة، وسرعان ما تجده يغرد في واد آخر ربما يكون على نقيض ما كان يدعو إليه، فتتصرم حياته في هذه الترحلات، ثم يصبح كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.. إن الأمر الظاهر هو أن الناس مهما ابتعدوا أو شطت بهم الطرق أو تفرقت بهم المذاهب، فإن تعاليم الإسلام، القائمة على مناهج النظر والاستدلال الشرعي تبقى عصية على الذوبان، ومتألقة في خضم هذه الأفكار، ومآلاً لكثير من الذين تاهت بهم السبل، كيف لا وهي التعاليم التي جاءت من خالق البشر والذي هو أعلم بما يصلحهم في حالهم ومآلهم: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).