اقترب معرض الكتاب، وبوادر معركة تلوح في الأفق، بعد أن انقسم القوم بين «مع» و»ضد»، ها هم يعدون العدة للانقضاض على الوليمة، ليست الموقعة المرتقبة إلا خرزة في مسبحة طويلة تكر سبحاتها، وتعاد. وحتى لا ينسينا غبار المعركة، أين نقف، لو نتذكر دائما أنه معرض للكتاب، والصراع فيه خارج الكتاب، بل أبعد ما يكون عن معنى التدوين والمعرفة، فماذا لو اقترحنا أن نعيد هذا الاختلاف إلى طبيعته المعرفية وقلنا: ليتحاجج المختلفون كل بكتابه، فليؤلف كل صاحب رأي كلماته وينشرها، لتكن المعرفة ساحة، والأفكار أداتنا السلمية الوحيدة، ليكن العقل سلاح المختلفين، لا المنع والمصادرة والطعن في النوايا والشخوص، لو نضع التفكير بديلا للتكفير. في تأمل سريع لصراع قديم يتكرر ولا يتجدد، يمكن التقاط خيط متين آخذ في نسج منطقة بين ضدين شرسين، بل انشق جدول ينأى بمائه ويحفر طريقه بموازاة واعية، ليتحول إلى تيار مختلف عن التيارين المتسيدين لمشهدنا الفكري، نسيج يصقل أدواته بمعرفة، نسيج يتنافى مع فكرة القطيع والتبعية العمياء، للعقل في هذا النسيج الذي يتشكل، سيادته بعيدا عن التصنيف الجاهز والمستقر. كلما اختلفت الآراء واحتدم الجدل بين تيارين ثقافيين، انتقل الصراع من حقل الأفكار إلى حقل العداوة، واستبدلت أوراق التفكير بهراوة التكفير، وهو حال مناف للعقلانية التي ينطلق منها أي حوار بين مختلفين. ما إن يستنفد منطق الحجة حتى تطفو دفاعات لا واعية من تحت طبقات الخوف والجهل، متسلحة بكل أنواع الأسلحة خفيفة وثقيلة، أسلحة أبعد ما يمكن عن استهداف الحقيقة، أسلحة توجه للشخص في مواجع جسده، وهي أسلحة بالتأكيد محرمة معرفيا. في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، اختلف تيار الصحوة (بمختلف تنويعاته) مع تيار الحداثة (بمختلف فصائله) في قضايا بدا ظاهرها في شأن الكتابة الأدبية، ولكنها حملت في طياتها أبعد من ذلك، ولاحقا تكشف أنها كانت محاكمات عقائدية، وأتاحت المؤسسة الرسمية المساحة للأطراف للتنفيس عن احتقاناتهم التي كانت تعود لأسباب مختلفة كان على رأسها الوضع العسكري والسياسي لدول الخليج، غداة حرب وعشية أخرى. بالطبع يدعي كل طرف أن الميل الرسمي كان داعما للطرف المقابل له، فتيار «الصحوة» يدلل على ذلك بامتلاك «الحداثيين» لوسائل الإعلام المطبوعة، في حين يشير الفريق الثاني بأن المنابر و»الكاسيتات» والمطبوعات في يد الفريق الأول، بل ودائما ما يستشهد بنشر وتوزيع كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» ومنع الردود عليه في مختلف الوسائل الإعلامية المحلية. المشكل في نمو ذاك الصراع أنه أخذ الحداثة ورموزها ذريعة للضغط على مسار المجتمع من جهة، وطال المؤسسة الرسمية من جهة أخرى، ومن توقف في تيار الصحوة عند منزلة الضغط والتهديد فقط، تمردت عليه طلائع تيار الصحوة نفسه وانقلبت عليه بل وذهب كثير منها إلى توسل أدوات ووسائل في أقصى التطرف. الإرهاب يبدأ من أفكار تبتعد عن العقل تدريجيا، حتى تصل إلى تصفية الآخر، فلنحذر.