العقوبة الشرعية القضائية لمثل هذه الحالات مع أهميتها وضرورتها إلا أنها لا تكفي لنزع فتيل الشبهات من قلوب الجيل، فقد يكف الشباب عن التصريح بأفكارهم بأسمائهم الصريحة، فمن يمنع التطاول بالأسماء المستعارة في فضاءات يدخلها الجميع كبارا وصغارا؟ الفارق الظاهر بين حمزة كاشغري وبين غيره أنه كان جرئيا، وصغيرا لا يعرف عواقب أن يعلن عن أفكاره الإلحادية أو المتعدية على جناب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن القضية ليست تقتصر فقط على مقولته التي استنكرها الناس جميعا، بل تتعداها ليكون حمزة واحدا من جيل جديد من الشباب الذين يحملون أفكارا إلحادية، أو لا دينية، أو شكية، أو "لا أدرية"، وهم موجودون بكثرة في عالم النت والواقع، ولهم تجمعاتهم وأفكارهم ورؤاهم التي لا يصرحون بها لأنهم يدركون بحكم النشأة عواقب الأمر في مجتمع يعظم الإسلام، ويثور إذا ما نيل من جناب النبي صلى الله عليه وسلم. في مقال سابق كتبت عن "الضنك الفكري"، وحالة الارتياب والشك والأسئلة الوجودية التي تتعرض لكثير من الشباب، وأن القضية تتعدى كونها نزوات عابرة إلى كونها ظاهرة فكرية، وأن الأمر المهم الذي لا بد أن يصاحب حالة الإنكار الشديدة التي قمنا بها جميعا إلى دراسة أعمق للظاهرة ومسبباتها وكيفية علاجها، وطرح الأسئلة المهمة: فكيف لشاب صغير نشأ في حلقات التحفيظ وكان يلقي المواعظ أن يتحول إلى ملحد أو شبه ملحد؟ وهل البعد النفسي له دور في ترحل الشباب فكريا بهذه الدرجة القاسية جدا والمؤلمة؟ وكيف يمكن مواجهة سيل الأفكار والنقاشات والمنتديات التي تعج بمثل هذه الأفكار التي تحدث ربكة معرفية حتى لبعض المتحصنين شرعيا وأكاديميا؟ وكيف يمكن "تحصين" الجيل من هذه الأفكار؟ وهل الطرح المنفلت الذي يستهدف الثوابت الشرعية ويسهل من التعدي على القطعيات أسهم في خلق مثل هذه الحالات؟ وهل الخطاب الشرعي والعلمي التبسيطي في مسائله يسهم في خلق مثل هذه الحالات؟ وما هو دور الرعاية الاجتماعية في البيت والمدرسة المأمول في القيام بتعزيز جوانب الانتماء العاقل والواعي الذي يقوم على مخاطبة الإنسان بكل جوانبه العقلية والنفسية والاجتماعية ليكون متزنا في أفكاره وتصرفاته؟ وما مقدار قدرة المناهج التعليمية على الوقوف أمام التساؤلات الفلسفية سواء كانت بسيطة أو معقدة؟ كل هذه أسئلة مهمة وضرورية حتى يمكن أن نساهم في حل مثل هذه المشكلات. إن العقوبة الشرعية القضائية لمثل هذه الحالات مع أهميتها وضرورتها إلا أنها لا تكفي لنزع فتيل الشبهات من قلوب الجيل، فقد يكف الشباب عن التصريح بأفكارهم بأسمائهم الصريحة، فمن يمنع التطاول بالأسماء المستعارة التي تخرج كل خبايا النفوس وسؤالات العقول في فضاءات يدخلها الجميع كبارا وصغارا؟ وهل المثالية التي يطرحها البعض من قبيل منع الشباب من مطالعة الكتب التي تؤثر في التفكير هي حلول واقعية أم هي محض تجديف لا ينفع لحل مثل هذه المشكلات إلا أن نضع أقفالا على القلوب والعيون حتى لا تقع فريسة لمثل هذه الأفكار؟ ولو سألنا سؤالا منطقيا مهما: هل يمكن أن يجد المطالع بحثا أو كتابا أو مشروعا فكريا محترما وراقيا ومجيبا على كل هذه التساؤلات، ويحسب على منتجات الصحوة والدعوة والبحوث العلمية في الجامعات والمعاهد في السعودية خلال الأربعين سنة الماضية، ويكون مؤهلا لمعالجة مثل هذه الظواهر؟ فإن كان الجواب بالنفي فلا بد كذلك أن نعالج أسباب هذا الغياب مع أن قضية الأفكار المنحرفة التي تدخل في حمى "المقدس" ليست وليدة اللحظة، بل هي قديمة جدا.. فما سبب غياب العناية بمثل هذه القضايا التي هي جزء من عمل الدعوة والمجتمع العلمي والشرعي. إنني ومن خلال تجربة ورصد في المنتديات في الإنترنت لا أتردد في أن أقول بأن الكثير من هؤلاء المروجين لهذه الأفكار يقومون بخطط معدة سلفا للإطاحة بأبنائنا في شرك الأفكار الإلحادية، وكثير منهم يدخل لهذا القصد، ويعمل بالليل والنهار لبث الكتب التي تشكك في الإيمان والخالق، فكما أن شبابنا استهدفوا بأفكار "الإرهاب والعنف"، واستهدفوا ب"المخدرات"، فهم الآن يستهدفون بحرب فكرية جديدة لتغيير البنية الفكرية للمجتمع، وخلق حالة من النفاق داخله، وهي جهود لا تقل ضراوة وتخطيطا عن أي جهود أخرى، وهذا يستدعي بلا شك جهودا كبيرة مضادة لها بسبب انعكاساتها الخطيرة، فإن الأفكار اللادينية أو الإلحادية أو العدمية تخلخل بنية المجتمع، وتخلق لنا جيلا مبتور الصلة ببيئته المحيطة، وناقما عليها، ولا يستطيع الاندماج فيها، بل إنه يفقد الإنسان معنى الحياة والسعادة فيها، ويجعله في حالة قلق واضطراب نفسي حتى يصل إلى حالة من العدمية الارتكاسية التي توصله إلى حالة انتحار واقعي. إننا يجب أن نتعامل مع قضية حمزة كاشغري لا على أساس أنها قضية عابرة، بل على أساس أنها علامة على المرض الكبير، فالتعرض لجناب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة يدل على المستوى الفكري الذي وصل إليه هذا الشاب - ومن هم على شاكلته - والذي جعله يقف هذا الموقف المزري من النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الشك والريب في الخالق هو الذي يقلل لا محالة من تعظيم نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأن دعاوى حرية الفكر والتعبير لا توجد عندها خطوط حمراء حتى تصل إلى النكاية بالمقدس عند المسلمين. لعل القضية تكون خيرا في أن يتنبه الجميع لخطورة تلك الأفكار على الشباب وطرح الحلول الشمولية لمعالجتها والاهتمام بها.