إقامة علاقات استراتيجية بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي رغبة يشاطرها الطرفان وسط ظروف حساسة ومتغيرات إقليمية ودولية. ويعزز هذه الرغبةَ ما يواجهه الخليج العربي من التحديات والمخاطر الأمنية، إضافة إلى التطلعات التركية لتحسين الوضع الاقتصادي ولعب دور بارز وأكثر فاعلية على صعيد المنطقة. ومن أجل تحقيق هذه الرغبة قُدِّمت خطوات عملية من الاتفاقيات والمشاريع والمؤتمرات، بدءا من توقيع مذكرة التفاهم خلال الاجتماع الوزاري بين الجانبين في جدة في الثالث من أيلول (سبتمبر) 2008 وصولا إلى الاجتماع الوزاري المشترك الرابع للحوار الاستراتيجي بين دول مجلس التعاون الخليجي وجمهورية تركيا على مستوى وزراء الخارجية، الذي انعقد في نهاية الشهر الماضي في مدينة إسطنبول ليؤكد استمرار الحوار والتعاون في معالجة قضايا المنطقة بما يعزز الأمن والاستقرار. وتم التوصل في اجتماع إسطنبول إلى عدة اتفاقات من بينها تشكيل لجنة اقتصادية جديدة لإعداد خطة عمل جديدة للمرحلة القادمة ما بين 2013 - 2014 ومواصلة التعاون في النقل الجوي والبحري، وربط شبكة سكة حديد بين تركيا ودول الخليج، ودعم تعزيز التعاون بين رجال الأعمال للبلدين، وعقد منتدى لرجال الأعمال في السادس من شباط (فبراير) المقبل في إسطنبول وعقد الاجتماع الوزاري الخامس للحوار في البحرين. هناك روابط تاريخية وثقافية ومصالح اقتصادية وسياسية مشتركة بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، كما أن الرؤى المتقاربة حول مختلف القضايا الإقليمية والدولية كقضية القدس وفلسطين، وأمن المنطقة واستقرارها، والموقف من الثورة السورية، والأزمات في العراق ولبنان، وخطورة الصراع الطائفي. ولكن الجانب الاقتصادي يبدو دائما هو الأهم والأظهر في العلاقات التركية - الخليجية في ظل زيادة ملموسة في تجارة تركيا مع دول المجلس تصل إلى 36 في المائة، وزيادة الاستثمارات الخليجية في تركيا بشكل كبير في الآونة الأخيرة ووصولها إلى 30 مليار دولار. ورغم أهمية التعاون التركي - الخليجي والعمل المشترك في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار، فإن إقامة علاقات استراتيجية وثيقة لا تتزعزع وسط أمواج التغيرات والمستجدات لا يمكن تحقيقها إلا بالتوازن في العلاقات، وتلبية تطلعات الجانبين، وتعزيز العلاقات بين الشعوب بتشجيع التواصل الاجتماعي والثقافي والسياحي، وحفظ هذه العلاقات بالتعاون الأمني والعسكري. دول الخليج العربية تبحث عن تحالفات جديدة في مواجهة الأطماع الإيرانية في الخليج، وتتوجس من الولاياتالمتحدة التي أصبحت سياستها المدمرة تشكل خطرا على أمن الخليج واستقراره، ويضع بعض المراقبين التقارب التركي الخليجي الحاصل في هذا الإطار، ولكن هناك علامات استفهام يثيرها آخرون حول قدرة تركيا ورغبتها في الوقوف بجانب الشطر الغربي للخليج العربي في مواجهة التهديد الذي يأتي من الشطر الشرقي، بل ويذهب البعض إلى أن تركيا لا ترى في دول الخليج إلا سوقا كبيرة لتصدير منتجاتها ومجرد أموال طائلة لابد من جلبها لتحصين الاقتصاد التركي أمام الأزمات. وللحد من إثارة الشكوك حول علاقات تركيا مع دول مجلس التعاون الخليجي يجب أن تتم إزالة جميع علامات الاستفهام ويدرك كل الأطراف المسؤولية التي تحملها عليه هذه العلاقات الاستراتيجية. توثيق العلاقات بين الشعوب من ضروريات تَجَذُّر العلاقات بين البلدان، لأن العلاقات السياسية والاقتصادية قد تتدهور في وقت قصير بتغير الحكومات أو المواقف، خاصة في المنطقة التي تشهد تقلبات كثيرة كمنطقتنا. ولكن العلاقات الثقافية والاجتماعية بين الشعوب لا تتأثر كثيرا كما تتأثر العلاقات السياسية والاقتصادية. ومن ضمن خطة العمل التي تم التوافق عليها في اجتماع إسطنبول إقامة دول مجلس التعاون الخليجي احتفاليات ثقافية في تركيا لتعزيز التبادل الثقافي، إلا أن مثل هذه الاحتفالات لا تكفي لوصول الثقافة الخليجية إلى المواطنين الأتراك. صورة دول الخليج لدى الأتراك تعرضت لعملية تشويه كبيرة كما أن صورة تركيا لدى العرب في حاجة إلى التصحيح، ولا بد من العمل المشترك وبذل الجهود لتحسين صورة كل طرف لدى الطرف الآخر. وتعاون مؤسسات المجتمع المدني من أفضل السبل لبناء علاقات ثقافية قوية بين شعوب الخليج والشعب التركي من خلال البرامج المشتركة والتقاء الباحثين والمفكرين من كلا الطرفين، كما أنه يسهم في التعارف والتآخي حتى يعرف الأتراك الخليجيين بمختلف أطيافهم ويعرف الخليجيون أن تركيا ليست كما تصورها المسلسلات الرومانسية. انفتاح تركيا على العالم العربي ودول الخليج ليس بديلا عن مساعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو بسبب إغلاق أبواب أوروبا في وجه تركيا، كما يعتقد البعض، بل هو جزء من سياسة الانفتاح على جميع الاتجاهات لتعزيز مكانة تركيا في المنطقة، لأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي خيار استراتيجي لتركيا ولا تراجع حتى الآن عن هذا الخيار. ولا شك أن العلاقات التركية - الخليجية المتينة ستكون داعمة لتركيا في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أن الحضور التركي القوي في أوروبا سينعكس إيجابيا على الشراكة التركية - الخليجية ويعزز قوتها. الاجتماعات والاتفاقيات وتشكيل اللجان خطوات مهمة في طريق الوصول إلى العلاقات الاستراتيجية المتوازنة بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، ولكن الأهم تطبيق القرارات وترجمة ما تم التوصل إليه إلى واقع يلمسه المواطنون الأتراك والخليجيون لكيلا تضيع الجهود في تيه اللجان ودهاليز البيروقراطية المظلمة.