نجيب الزامل - الاقتصادية السعودية لا يمسح الدموعَ إلا الذي تسبّب بها، أو.. شعر بها. وعندنا مشكلة. وأوّل حلٍّ لأي مشكلةٍ الاعتراف بها، ثم تشخيصها، ثم محاولة علاجها. إن مسألة العنف الأسري من أكبر المسائل المدمّرة في بنية المجتمع الأولى. إن الفرد الذي يتعرّض لعنفٍ أسري إما أن يصبح عنيفاً معتدياً عدائياً، أو يكون خائفاً معقداً ومختلاً، أو ميالاً للإجرام الانتقامي من المجتمع.. وبالتالي يكون المعنَّفون كأصابع الديناميت المغروزة في ضمير الأرض لا تنتظر إلا إشعال الفتيل، على أن إشعالَ الفتيل لن نتحكم فيه.. لأنه يشتعل من تلقاء نفسه! وأرجو ألا نصدق الخرافة التي تُلاك دوما بأن المسألة ليست ظاهرة، إنها نوع من المخدر يُراق بعروقنا كما يُراق المورفين في العروق ليغيب الإنسانُ عن واقعه، ولكن الواقعَ لا يغيب، فالمشكلة التي نخدّر نفسنا عنها لن تنام ولن تخمد ولن تقبل التخدير بالمورفين ولا كل المسكنات والمخدرات.. بل ستستمر في النمو والتوحش حتى تتعاظم وتسد العيون. وتصبح العيون لا ترى.. لأن الظاهرة أعمتها حتى من رؤيتها. كنت أتبادل الحديث مع الدكتورة "مها المنيف" العالمة المعروفة في هذا الموضوع في مركز الأمان الأسري التابع للحرس الوطني، والدكتورة تعمل منذ سنوات في الموضوع وتبذل فيه الوقتَ والجهد، وقلبُها ممتلئٌ وعقلُها وضميرُها حتى السقف بقصص توجع إن صمتتْ، وتوجع أكثر إن تحدثتْ، إنها قصص أطفال ونساء يعانون ممن يفترسون داخل بيوتهم كل يوم.. الدكتورة المنيف يحزنها أن الحوادثَ في ازدياد، ولكنها تعتمد في أملها وتفاؤلها بكمية الوعي المتزايد في المجتمع حول متلازمة العنف هذه.. وأكرر، أنه لا يهم إن كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، هذه محضُ خرافة.. فإنقاذ روح واحدة من جهنم حقيقية تقتضي أهمية بأهمية إنقاذ مجتمع. بينما أجلس مرتاحاً أطبع هذا المقال، هناك آلاف من النساء يُسَمْنَ من سوداويين ساديّين صنوفَ العذابِ لا تصل إليه مخيلات الجلاوزة بالمعتقلات، وتُهرس لحومُ أطفالٍ هم زهرات الدنيا.. جحيمٌ على الأرض، وأين؟ في الأماكن التي يجب أن تكون أكثر بقع الأرض أماناً على الأرض.. البيوت! وإني أنام مرعوباً بأي ليلةٍ أسمع أو أقرأ قصصاً من التعذيب والعنف حتى أن الكوابيس السود تصير نعيماً مقارنة بها.. أرتاع من ألم تصور المشهد، أرتاع أن أقف أمام الله يوماً على الصراط ويسألني: ماذا فعلت حين سمعت، وحين قرأت؟ وهذا شعور كل واحد منا. ومن هنا جاء طرح آلية التعامل مع المجتمع المدني، خصوصاً بالجمعيات التطوعية المنتشرة عبر البلاد لنشر الوعي حول العنف الأسري، وستحمل معها رسالة أخرى؛ أنّ عينَ المجتمع تراقب أولئك الساديّين المتصلبِّي القلوب، وأنّ كل المجتمع يد واحدة تطولهم. إن المركزَ وحيد، وحتى بوجود العاملات والعاملين المجتهدين به، لن يستطيع مهما بذل أن يحقق الأمل الكبير للوعي الكبير بالمجتمع الكبير، خصوصا في ظل مصاعب تضارب التخصّصات الرسمية فيكون المركزُ كمن دخل دغْلا متكاثف الأغصان، وكلما خطا خطوة للأمام تلوَّتُ الأغصانُ أكثر. إن دخول شبابنا فتياتٍ وفتيانا في جمعيات العمل التطوعي بمناطق المملكة في آلية تعاون ستضاعف العمل بشكل درامي. إن الشباب يثبتون إبداعاً في إيصال الفكرة للتوعية العامة، ويملكون مهاراتٍ ابتكارية في تنظيم الحملات التوعوية، وبهم خاصية الإقبال الحماسي على العمل التطوعي، ويبذلون فيه الكثير بلا تردد. يكفي من الأفكار أن الشابة "أماني العجلان" من المركز أعدّتْ وأخرجتْ فيلماً صغيراً عن "متلازمة الطفل المهزوز"، عندما يتعرّض الطفلُ الرضيع لهزٍّ عنيفٍ جهلاً أم عنفاً فتتقطع أوردة عنقه، وتنفصل أنسجة أعصاب عموده الفقري؛ ما يؤدي إلى الشلل والتخلف أو.. الموت. الفيلم حقق مشاهداتٍ قياسية في وقت قصير تعدت السبعمائة ألف.. تصوّروا لو أن الموضوعَ دار على شباب الأمّة، إني رغم تفاؤلي لا أستطيع تصور حجم نجاح العمل.. كلنا مسؤولون.. وكلنا نخاف من المساءلة الكبرى، المساءلة الإلهية. ولن تمسح دموعَنا إلا أيادينا!