الإجابة تتوقف على مساحة الوعي بالسنة لا الركض في التاريخ، فالتاريخ الإسلامي بتقلباته ومده وجزره وسلبه وإيجابه مختلف عن الواقع الذي نعيشه. قبل الربيع العربي كان الإسلاميون وخصومهم يقبعون في جدلهم داخل التاريخ بعيدا عن الواقع.. بعيداً عن السنة نفسها. حينها تجد من يستشهد بإخفاقات حاكم لإدانة خصمه الإسلامي، يرد عليه هذا بنموذج مشرف.. هنا تكمن حالة العيش في التاريخ وهنا يستحيل الخروج. العيش في التاريخ امتد للعبادات التي لم يترك عليه السلام حركة فيها إلا أرشد إليها.. تجد المقلد الذي يعيش في التاريخ يحتج بفلان فيرد المقلد الآخر بقول فلان وهكذا.. في نقاش عقيم لا ينتهي، أما عندما يأتي من يستدل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجعل تلك الشخوص الكريمة تفسح الطريق لمن اصطفاه الله واختاره وحده.. بذلك تبقى العبادة نقية تستلهم من النبع لا من الجداول. في الشأن السياسي والاقتصادي والعسكري لم ينزل الوحي بتفاصيل، بل وضع خطوطًا عريضة.. لم يقل نبينا عليه السلام لأمته كيف تختار حاكمها، أو كيف تحكم نفسها، بل إنه لم يحدد من يخلفه تاركًا للأمة أن تجتهد مستضيئة بتلك الخطوط، ويكفي كما قلت في مقال سابق أن أعلم الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأفضل صحابته وألصقهم به أبا بكر عليه السلام عندما حضر الحوار والنقاش في السقيفة لم يستطع الإتيان بآية أو حديث لترجيح قوله، وكذلك بقية الصحابة عليهم السلام، بل إنه سكت عندما رد عليه أحد الأنصار، ولم يتم ترشيحه وقبوله إلا عندما ذكر الفاروق آية الغار (لا تحزن إن الله معنا) وهي آية تزكي أبا بكر، لكنها لا تضع آلية للحكم، فالنبي ترك لأمته فضاء الاجتهاد مشرعا للعقول عندما قال: (إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلي ) –أحمد بسند صحيح . بعد متابعة النقاش المحموم في محطة (البي بي سي) حول فوز حزب النهضة، عجبت لتلك الأسئلة التي تنهمر على ممثليها، وتلك الطريقة العصبية المنحازة التي يطرح بها المذيعون أسئلتهم.. ذكرت بعضها في مقال سابق، أما آخرها وأشدها إضحاكاً فسؤال عن موقف النهضة من مكتسبات الحداثة في تونس حيث اشرأب عنق المذيع بأهم مثال على تلك المكتسبات، فإذا هو مكتسب لا علاقة له بالتعليم لأنه فاشل، أو الصناعة فلا وجود لها، أو الزراعة فالناس جياع في تونس الخضراء.. لم يجد هذا المثقف من مكتسبات ستين عاما من الحقبة البورقيبية والبنعلية إلا المشروبات الكحولية (الخمر)! مثال أخجل السيدة ممثلة الحداثة في تلك الحلقة، فردت على المذيع وأنبته وتبرأت من ذلك المثال، لكن حداثتها التونسية لم تسعفها بمكتسب مشرف، لذا اكتفت بالبراءة من ذلك المثال المخجل. إن تورطت النهضة في المهاترات والجدل العقيم مع رموز الفشل، فإنهم سينجحون في إشغالها بالتوافه حتى تسقطها الجماهير كما أسقطت أولئك الفاشلين، فالجدل يوغر الصدور ولا يكسب صاحبه سوى العناد، لذا فالانصراف لهموم المواطن واحتياجاته بتوفير المساكن وإصلاح التعليم والنهضة بالزراعة والصناعة وقبل ذلك العدالة هو أفضل طريقة للحديث والحداثة، وإلا سينفض عنها مؤيدوها مهما حملت من شعارات إسلامية، فالله سبحانه يقول لنبيه: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) أجل سينفض عنك يا محمد أصحابك رضي الله عنهم، لو كنت فظا غليظ القلب، أما بقية الآية فتضيء لمن ينخرط في الحكم ما يقوي حكمه ويسعد شعبه ويجعلهم يعلقون صوره على جدران قلوبهم ما داموا أحياء.. كلمات تقول: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).