حوادث الانتقام في الغالب الأعم لمن يقرأ التاريخ (القديم والحديث) تفوق الجريمة نفسها في عنفها وبشاعتها آلاف المرات، فالمنتقم في حال الثأر لنفسه ليس معنيا بالإنصاف، ولا بالعدل كقيمة، لكنه يهدف إلى أن يشفي غليله حوادث الثأر والانتقام على مر العصور، وفي كل صورها، تأتي كرد اعتبار قوي للشخص المعتدى عليه بأي وسيلة كانت، حيث تُسقط هذه الطريقة من حساباتها المساواة في إيقاع الضرر بالآخر والكيفية والظروف المحيطة بالحدث نفسه، وتركز على فعل الإيذاء، وإلحاق الضرر المعنوي والحسي بالخصم، لذلك يحصل كثيرا أن يدفع أحدهم حياته كاملة ويقتل شر قتلة، مقابل الصدع بكلمة حق قاسية أو بسبب زلة لسان أو نتيجة إلقاء كلمة غير مدروسة العواقب قبل النطق بها، وشواهد ذلك في التاريخ أكثر من أن تحصى، كما حصل مع الشاعر المتنبي، وكثير من الشعراء وغير الشعراء ممن قتلتهم قصائدهم وألسنتهم، كما قد يكون الانتقام من شخص ما نتيجة موقف له لم يرق لأحدهم أو تسبب له بالإيذاء، سواء كان هذا عن قصد أو عن غير قصد، لكن حوادث الانتقام في الغالب الأعم لمن يقرأ التاريخ (القديم والحديث) تفوق الجريمة نفسها في عنفها وبشاعتها آلاف المرات، ويختفي أمامها القانون القائل (لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة) فالمساواة بين الجريمة والانتقام غير متحققة في الغالب لتراكم الغضب والحنق والحقد، وإن كان المنتقم يرى في قرارة نفسه أنه أقام العدل واقتص بالحق إلا أنه جار في حكمه دون أن يعلم، لذلك نرى المنتقمين يرددون ما أثر (كما يقال) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قوله (الشر بالشر والبادئ أظلم) دون التفات إلى نوع الظلم الذي يقترفه المبتدئ بالعدوان، وهو الظلم الذي لا يزول بالقصاص بل يُترك أمره إلى الله، فلكل جريمة صغرت أم كبرت نوعان من العقوبة، دنيوي وأخروي، فالعقوبة الدنيوية هي القصاص، أما العقوبة الأخروية فمردها إلى الله تعالى. ويغفل المنتقمون قوله تعالى في سورة البقرة، الآية 194 (مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وقد أجمع أهل العلم على أن أمور القصاص والجنايات هي وقف على القضاة، فلا يحل لأحد أن يقتص من أحد بنفسه، لما في ذلك من المفاسد العظيمة، نحو إثارة النعرات والثارات، فضلا عن أمره سبحانه وتعالى بالتقوى في ذات الآية، وهي في أبرز معانيها الاحتراز عن الشر وتجنب ما يؤثم المرء بسببه، وقد قال ابن المعتز في التقوى: خل الذنوب صغيرهاوكبيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى فالمنتقم في حال الثأر لنفسه ليس معنيا بالإنصاف، ولا بإحقاق الحق، ولا بالعدل كقيمة، لكنه يهدف إلى أن يشفي غليله أو الحقد المتراكم لديه، والذي استمر في النمو والتمدد طوال سنوات الانتظار، لذلك لم يكن عنا ببعيد ما قرأناه من إقدام سيدة على إحراق خيمة الزواج التي أقيمت لحفل زفاف زوجها على امرأة أخرى، فنتج عن محاولة انتقامها من زوجها قتل عشرات الأبرياء بلا ذنب. أو إقدام رجل على سكب ماء النار على وجه فتاة رفضته كزوج فتسبب لها في عاهات مستديمة، وقضى على حياتها ومستقبلها بالكامل. ولعل آخر حوادث الانتقام، والتي كان العالم بأكمله شاهدا على كل التفاصيل المؤلمة فيها، موثقا كل ذلك بالصوت والصورة هو ما حدث من الثوار الليبيين أثناء وبعد القبض على معمر القذافي، حيث صدرت منهم العديد من التصرفات المهينة وغير الأخلاقية والبشعة إنسانيا، والتي في مجملها لا تليق بثورة حرة شريفة كثورتهم، فأساؤوا بذلك لثورتهم ومبادئها، وصنعوا من المجرم بطلا استثنائيا. ولو توقف الانتقام عند ما حدث في لحظات الاعتقال الأولى لوجدنا له ما يبرره، لكن أن يصل مسلسل التشفي والانتقام إلى بضعة أيام، وصل فيها الأمر إلى حد انتهاك حرمة الميت، دون اعتبار لمبادئ الإسلام وتوجيهاته التي تقوم على الرحمة والإنسانية والعدل؛ فهذا ما تجاوز الحد بكثير. لذلك فالفرق جوهري وكبير بين القصاص كقانون رباني يحقق العدل للناس، ويحمل في طياته أسباب الحياة الآمنة، وبين الانتقام بصورة عشوائية لا يمكن أن تحقق العدل المندوب حتى في أفضل صورها، حيث تتم بلا محاكمة عادلة يتم من خلالها معرفة حدود الجريمة المقترفة والعقوبة المناسبة التي نصت عليها الشريعة الإسلامية تحقيقا للعدالة. ويعتبر الحقد والضغينة والغل هي المحرك الأساسي للانتقام، لذلك جاء التوجيه القرآني واضحا وصريحا في هذا الموضوع (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) و(الشنآن) هو البغض، لعلمه سبحانه وتعالى أن الحقد والبغض قد يدفعان الإنسان في فورة غضبه إلى التمادي في الثأر لنفسه حتى يجور في ذلك أو يبالغ فيبتعد بذلك عن صفة العدل، ويتجاهل القيمة السامية التي يدعو إليها القرآن صراحة وهي (العدل). ثم يأتي الأمر الصريح بوجوب العدل ويقرنها بالتقوى مرة أخرى، (اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله) سورة المائدة الآية الثامنة. إن الإسلام في تعاليمه النظرية، وفي تطبيقاته العملية كما جاء بها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، يَسْمَحُ بالقصاص العادل، ولا يسمح بالانتقام الذي يتجاوز حدود العدل والإنصاف والأخلاق. فالمسلم في حال الاعتداء عليه يكون بين خيارين لا ثالث لهما، هما خيار العدل، وخيار الإحسان والصفح، مهما كانت قوته وقدرته إلا في حالة الدفاع عن النفس، وهذه لها ضوابط أخرى مختلفة تماما. فهل يمكن بعد ذلك أن يكون الانتقام العشوائي محققا للعدل؟ وهل يمكن للمنتقم أن يكون عادلا؟