رشيد الخيُّون *نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية ما أصدق حبيب بن أوس الطَّائي (ت 231 ه) حين قال: "الدَّهرُ لا يشوي وهُنَّ المَصَائِب .. وأكثرُ آمالِ الرِّجالِ كَواذِبُ.. على أنَّها الأيامُ قد صرنَ كلَّها.. عجائبَ حتى ليسَ فيها عجائبُ" (الدِّيوان). إنها عجيبةٌ مِن عجائب الدَّهر أن يقضي القُساة بين مسحوب مِن حُفرةٍ، ومحشور داخل أُنبوب مجارٍ! بعد أن كانوا يتصرفون بالرِّقاب، وبأيديهم الأرض وما عليها! كيف صارت المصائر مشاهدَ عجيبةً، يصعب التَّعبير عنها في شِعر أو نثرٍ ، فلولا الصُّور الحيَّة ما صَدق السَّامع: إن ملك الملوك، وقائد الثَّورة، والملهم صاحب النَّظرية العالمية الثَّالثة -سمعنا أنها لا اشتراكية ولا رأسمالية ولا ندري ماهي!- تضيق عليه بلاد حكمها لاثنين وأربعين عاماً (1969 -2011)، وهي الشَّاسعة المترامية النِّهايات، ويلجأ إلى أُنبوب مدفونة في أرضٍ تركها هو مقفرة، يطارده مَن وُلد وهو لا يرى سواه حاكماً بأمره. فمثلما ظل العالم غائباً عن الوعي لحظات عرض صور لصدام حسين (أُعدم 2006)، في ذلك المشهد الغرائبي، تسمرت العيون أمام الشَّاشات لترى مُعمر القذافي (قُتل 2011) مضرجاً بالدِّماء، لم تستر جسده ثياب الخُيلاء، ولا تمنع رأسه مِن الصفعات طاقية الأُبهة. يا تُرى بماذا كان يُفكرُ لحظة سحبه مِن فوهة الأُنبوب؟! كان صدام أفضل حظاً لحصوله على ما لا يحلم به، قبضه الأَميركان فصعد رصيد وطنيته، وحظي بمحاكمةٍ على قضية كانت هي نفسها تُدافع عنه، وطريقة إعدام غسلت له ما تقدم وما تأخر مِن سفك الدِّماء وخراب البلاد. فالعقول التي قررت إعدامه بهذا المشهد كانت متواطئة لخلق حالة طائفية، فما ظهر للعالم أنهم أعدموا صدام السُّني في ظل حاكم شيعي! هكذا كانت الرِّسالة، وما فعله الذين خلفوه محا الصُّور التي ظهر فيها غاشماً، وهو يُهدد رفاقه بتربيع أجسادهم كجزار. فقصة سارق الأَكفان مازالت حاضرة في الأَذهان. لم يحصل القذافي على مجدِ سحبه مِن جحر الأرض بيد أجنبية، إنما تلك اليد تعلمت بعد أن مارست الأَخطاء الفظيعة، وكان العِراق ومازال حقلاً للتجارب، أن تبقى خفيةً، وتبتعد عن المشهد، فهو خيط ناعم لا يُرى بين الأجنبي والوطني في حال ليبيا. لكن السُّذج عليهم في الظَّاهر، وما عليهم بكيف ولماذا؟! فكتبوا بالمانشيت العريضة: "قُتل القذافي"! بينما الجريدة نفسها كتبت عندما أُلقي القبض على صدام حسين: "أَسد في حفرة وجرذان في العراء"! مع أن المشهدَ واحدٌ، والطَّائرات الكاشفات والسَّلاح والمهارات هي هي. لا أكتب هذا للثَّناء على اليد الأَجنبية، لكنه كان واقع الحال، فليس لدى المظلوم المضطهد، والجائع العاري، مِن فرق بين الوطني والأَجنبي في ساعة الخلاص. وهل يميز الغريق بين خشبة إنقاذ أميركية أو وطنية؟! إنها أُكذوبةٌ أن يصبح العِراقيون عملاءَ لأنهم استبشروا بما فعلته اليد الأميركية، وأن يغدو الليبيون والسُّوريون واليمنيون والمصريون والتُّونسيون وطنيين لأن أنظمتهم سقطت بأيديهم. لكن لا أحد يحسب للتهديد الأميركي حسابه في قطع المليار دولار عن مصر، إذا استمر مبارك في الحكم! وأن المتظاهرين السُّوريين مازالوا يبعثون برسائلهم إلى أجنبي لحمايتهم، وأن حلف الأطلسي عموماً قام بشلِ جيش القذافي وكتائبه، ولن تبتسم هذه الدول بوجه زين العابدين بن علي! لا نحكم على الشُّعوب الثَّائرة بالعمالة، مثلما حكم قوميوها وإخوانها المسلمون على الشَّعب العِراقي، وبرروا المقاتل الإرهابية، فما حبرته الأقلام العروبية والإسلاموية يُنبيك أن جنتها أغلقت أبوابها بالعِراق، لكن الحقيقة أن العامل الخارجي في التَّغييرات ككل كان قوياً ومؤثراً. فالقذافي لم يُحشر في أنبوب المجاري لولا ضربات الأطلسي، وأميركا هي زعيمة الأطلسي هذا منذ نشأته الأُولى، وأن ابن علي ما ركب الطَّائرة، في رحلة النِّهاية ليستقر مرتاح البال بعد مشاهدته لجثة القذافي، لولا أن كف الغرب عن دعمه. لا تُكثروا بثلب العِراقيين لأن يداً أجنبية أسقطت غاشمهم، فاليد نفسها وراء الحوادث الجارية، مع تباين الأُسلوب، وهي ليست معيبة. يبرر الفساد والظُّلم والتَّقهقر الاجتماعي في ظل هؤلاء الحُكام طلب المساندة مِن اليد الأجنبية، بعد أن كانت داعمة ولعقود لأولئك الدِّكتاتوريين، فهي أسهمت في رفعهم إلى العروش بطرائق مختلفة، بداية مِن صدام إلى معمر. "لقد قابلنا الدَّهرُ بالعجائبَ"، سواء كانت بيد أجنبية أو وطنية، فكنا في لحظة مشاهدة رأس القذافي وهو يُشد مِن هامته، كمَن قال: "ضحك الرَّبيع بعبرةِ الأَندادِ.. ومِن العجائب ضاحكٌ ببكاءِ" (الحموي، معجم الأُدباء). وأعني رَّبيع الثَّورات. كان الغرور حاجزاً بين القذافي وحساب صولة الدَّهر، فظل بعيداً عن معاناة الشَّاعر: "وكم ليلة لا أُعلم الدَّهرَ طيبها.. مخافة أن يقتصَّ منيَ لها الدَّهرُ" (الثَّعالبي، يتيمة الدَّهر). كان الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40 ه) الأكثر تحسباً للدَّهر، مع أنه لم يكن مغتراً بالسُّلطة ولا بالدُّنيا كلَّها، تجده لديه مفردةً مثقلةً بالحزن والخطب، فنعته بالعنود، والفادح، والمُبكي، والصَّائل "وصال الدَّهرُ صيال السَّبعِ العقورِ"! وتحت جناح الدَّهر أعجب العجب، وصاحب مكاره وملمات، ويعطي أقل مما يأخذ، وهو التَّاريخ: "ومضت الدُّهور وسلفت الآباء" (نهج البلاغة). لكن مِن طبائع الغاشمين أن يغتروا بأنفسهم غرور الطَّواويس. أجد بصير المعرة "أبو العلاء" (ت 449 ه) لخص جحود المتسلطين بعبارة متينة: "طموح السَّيف لا يخشى إلهاً.. ولا يرجو القيامة والمعادا". وانظروا ما قاله في الدَّهر، المصير والقضاء، الذي لم يحسب أولئك حساب صولاته: "ولو طار جبريل بقية عمره.. عن الدَّهر ما اسطاع الخروجَ مِن الدَّهر" (لزوم ما لا يلزم). أقول: بعد سقوط رأس القذافي: هل يعتبر الباقون،، فها هو الدَّهر يُصير المصائر بفاجعة مثلما بدأها بسانحة! فمَن منا كان يتوقع تهاوي الرُّؤوس واحداً بعد الآخر، وكأنها "خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ" (المنافقون: 4)!