د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني - الجزيرة السعودية اشتهر المصريون على مستوى العالم العربي بأنهم شعب الدعابات والنكتة المضحكة، وكما يقول العقاد في كتابه عن (جحا الضاحك المضحك) إنّ النكتة تصبح مضحكة إذا خالفت المتوقع، وخالفت المنطق، وقد رأينا المصريين في ميدان التحرير أثناء الثورة والنكتة ترافقهم من خلال اللوحات التي كانوا يحملونها، ومن ذلك لوحة كتب فيه (ارحل) بالمقلوب، وكتب تحتها، كتبناها بالمقلوب يمكن يفهمها!! ولوحة أخرى كتب فيها (ارحل يعني امشي هو انت ما بتفهمشي؟)، ويبدو أن النكتة قديمة في تاريخ مصر، فيروى أنه أثناء حكم الرومان منعوا المحامين المصريين من المرافعة لأنهم أحياناً يجرحون هيبة المحكمة بنكاتهم، وأبو الطيب المتنبي المعروف بجده وصرامته تأثر بالروح المصرية المرحة عندما عاش في مصر، ويقال إن القاهرة كانت تحتضن شخصاً يقال له (سيبويه) لكثرة ولعه بالنحو والصرف، وكان صاحب نكتة، وكان لديه حمارة بيضاء يركبها ووجهه إلى ذيلها، وكان يطلق النكات على كافور وحاشيته فتنتشر انتشار النار في الهشيم، ويقال إن بيت المتنبي الذي يقول فيه: وتعجبني رجلاك في النعل إنني رأيتك ذا نعلٍ وإن كنت حافيا يقال إن المتنبي استوحى هذه الصورة الكاريكاتورية لكافور من نكات سيبويه، والمتنبي نفسه لم يسلم من نكات سيبويه اللاذعة.. ولكن لماذا اشتهر إخوتنا في مصر بكثرة إنتاج النكتة؟ حاول عالم الاجتماع المصري الأستاذ الدكتور حامد مصطفى عمار الذي يعتبر أحد رواد علم الاجتماع المعاصر في مصر الإجابة عن هذا السؤال، فسعى إلى بناء تصورات نظرية عن الشخصية المصرية ومقوّماتها مطلقاً عليها وصف (الفهلوي)، وقد بدأ بمحاولة بيان أسباب التشكيل الاجتماعي لمختلف أنماط الشخصية في المجتمعات المختلفة، مبيناً دور العوامل الاجتماعية والتاريخية في تشكيل نوع الشخصية الاجتماعية، بما في ذلك شخصية المصري، وقد توصل إلى أن المصري لديه قدرة على التكيف السريع وقبول المتغيرات الجديدة، غير أن تلك القدرة على التكيف السريع تتميز من وجهة نظره بحالتين أساسيتين، إحداهما تتمثل في المرونة والفطنة والقابلية لهضم استيعاب الجديد، والثانية تتمثل في المسايرة السطحية والمجاملة العابرة والتي يهدف من ورائها إلى تغطية الموقف والمشاعر الحقيقية، وقد أرجع ذلك التباين في الشخصية المصرية إلى تعاقب أنظمة الحكام والولاة والسلاطين والملوك، فارضين سطوتهم وسيطرتهم على الشخصية المصرية، وكان على الجميع أن يذعن لسطوة أولئك الحكام وإلا تعرضوا لألوان العقاب، ويرى حامد عمار أن مثل هذا التكيف السطحي قد صاحبته نكتة سريعة مؤاتية في طرافة وظرف وتفريغ لما في النفس من إحباطات، وغدا ذلك من الخصائص والسمات للشخصية المصرية من وجهة نظره، ويرى أن من مظاهر الفهلوة عند المصري المبالغة في تأكيد الذات والميل الملح على إظهار القدرة الفائقة والتحكم في الأمور، ويرى أنها تختلف عن الثقة في النفس الناتجة عن طمأنينة الشخص إلى قدراته وإمكاناته، بل إن المبالغة في تأكيد الذات ناتجة عن فقدان الطمأنينة، وعدم الرغبة أو القدرة على تقدير المواقف تقديراً موضوعياً، وهذا يذكّرني بمقولة أحد رجال الأعمال السعوديين، حيث وصف العامل المصري بأنه مبدع ولكنه يقضي من الوقت في الإشادة بمعمله ضعف ما يقضيه من الوقت في إنجاز ذلك العمل، ومن مظاهر الفهلوة عند المصري كما يراها الدكتور حامد عمار، التهكم على الغير، والمبالغة في حل الأمور وإنجازها، والمبالغة في المظاهر الخارجية، وأكد بأن الرغبة في تأكيد الذات تولد عنها السخط على الأوضاع التي ولدت التمايز بين الناس، وتولد عنها السخط في أعماق النس على السلطة رغم ما يبدونه من مظاهر الاحترام لها، ومن مظاهر شخصية الفهلوي (الإسقاط والإزاحة) أي محاولة رفع المسؤولية عن الذات وإسقاطها على الغير خوفاً من التقصير في الواجب، وعليه يكون أداء العمل نتيجة للخوف من العقاب وليس نتيجة لدافع تحقيق الذات، ومن مظاهر تلك الشخصية الميل إلى العمل الفردي، والتهرب من العمل الجماعي، وإن كان لابد من العمل الجماعي فغالباً ما يكون في إطار المجاملات، وأورد بعض الأمثال الشعبية التي أعتقد أنها أو ما يشبهها منتشرة في المجتمعات العربية جميعها، مثل قولهم (قدر الشراكة ما تفور) و(حصيرة ملك ولا بيت شرك)، ورغم احترامنا لآراء الدكتور عمار ووجاهة معظمها، وخاصة التسلط من قبل الحكام الذي دفع بالأفراد إلى التحايل والنفاق حتى يعيشوا، وهنا يمكن الإشارة إلى أن الحكومات التي أعقبت انقلاب 1952م كان له دور كبير في دفع الناس إلى تبني النفاق الاجتماعي، لأن النظام قام بقلب بناء المجتمع المصري، فخفض من كان في موقع القيادة، ورفع من القاع أناساً لا يستحقون أن يكونوا في المواقع المتقدمة، ولكنهم وصلوا إلى هناك بسبب نفاقهم وتزلفهم للسلطات، وفي تصوري أن النكتة لا تأتي إلا من شخصين، ذكي شديد الذكاء، أو غبي شديد الغباء، وكلا النوعين موجود في مصر، وربما وضع الأذكياء أنفسهم في موقع الأغبياء أحياناً بسبب تعاطي الحشيش الذي يجعل الشخص يتوهم أشياء لا وجود لها إلا في ذهنه، ومن ثم ينتج عن قوله أو فعله ما يثير الضحك، ثم إن النكتة جزء من ثقافة المجتمع، فكما أن هناك مجتمعات تشتهر بالكرم، وأخرى بالبخل، ومجتمعات تهتم بالتجارة وأخرى تهتم بالعلم، فإن النكتة جزء من ثقافة بعض التجمعات، حتى على مستوى القرى الصغيرة، واختتم بنكتة مصرية - وما أكثرها - مفادها أن حشاشاً ركب سيارة أجرة، وفي الطريق بدأ يحدث نفسه ويقول: لو كان أبي فيلاً وأمي فيلة لكنت فيلاً، ولو كان أبي أسداً وأمي أسدة لكنت أسداً، ولو كان أبي غزالا وأمي غزالة لكنت غزالاً، كان سائق سيارة الأجرة يتابع حوار الحشاش مع نفسه، فقال له: ماذا ستكون لو كان أبوك حماراً وأمك حمارة؟ فرد عليه: كنت سأكون سائق سيارة أجرة..!! وهنا جاء الجواب مخالفاً للمتوقع، ومخالفاً لمنطق سير المحادثة، وهذا يعيدنا إلى تفسير العقاد الذي أوردناه في بداية المقال عن عوامل الإضحاك في النكتة.