هيفاء القحطاني - الاقتصادية السعودية يقول المفكر والعلامة السوري عبد الرحمن الكواكبي في كتابة طبائع الاستبداد: ""الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشرّ وأبي الظلم وأمّي الإساءة وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرّ، وخالي الذل وابني الفقر وبنتي البطالة وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال.. المال.. المال"". في عام 2009 حصل الكاتب الأمريكي دوجلاس بلاكمون على جائزة بوليتزر الشهيرة عن كتابة ""Slavery by Another Name - العبودية باسم جديد"" هذا الكتاب الذي ولد في مقال نشر في ""وول ستريت جورنال"" في عام 2001 وتحت إلحاح شديد من القراء المعجبين بالعمل تحوّل المقال خلال سبع سنوات إلى كتاب من 500 صفحة. يروي بالتفاصيل والوثائق والشهادات الحيّة - والميتة - قصة استعباد الأمريكيين السود من جديد، بعد مضي 40 عاما على انتهاء الحرب الأهلية وصدور التشريعات والقوانين التي حررتهم. هذا الاستعباد الجديد الذي ولد باسم الثورة الصناعية وبناء أمريكا! في سعيه الحثيث لتدوين هذه الحقائق يقضي بلاكمون السنوات السبع في رحلات لمحاكم ومراكز الأرشيف في الولاياتالأمريكية الجنوبية للتحقق من بدء هذه الموجة المرعبة، التي دفعت الكثير من السود إلى الاختباء، الهرب أو الوقوع طواعية تحت سلطة الرؤساء المتجبرين. استطاعت شركة الصلب الأمريكية وغيرها من الشركات ومناجم الفحم والمصانع الالتفاف على القوانين التي شرّعت لمنح الأمريكيين من الأصول الإفريقية حريتهم، عن طريق التواطؤ والمراكز الأمنية والمحاكم في كثير من المناطق لابتكار تهم وهمية تزج بالرجال السود في السجون وتطرح عليهم خيار الخروج بكفالة من نوع خاصّ. يستلم ربّ العمل عماله الجدد من السجن بعد توقيعهم على وثيقة تخلي سبيلهم مقابل الكدّ في مصنع أو منجم لتغطية قيمة الكفالة المفروضة عليهم. هذا الانتقال من سلطة الهيئة القضائية لسلطة الإقطاعيين ملأ خزائن المدن الأمريكية بالأموال وضمن ملء المصانع بالعمالة قليلة التكلفة. الصناعة الأمريكية كانت ""مدمنة"" على العبودية الجديدة وبدلا من أن تُكتشف هذه الخدعة الجديدة وتوقف باسم القانون والإنسانية انتشرت في المدن والولايات المختلفة انتشار النار في الهشيم. التهم الوهمية التي يتحدث عنها الكتب تثير الضحك والأسى في الوقت ذاته؛ إذ يحكم على الرجل الأسود بالسجن لمجرد رفعه صوته بالحديث في حضرة امرأة بيضاء، أو بيعه محصول القطن بعد غروب الشمس، أو خرقه لتعليمات عدم الجلوس في الأماكن المخصصة للبيض، والقائمة تمتد ولا تنتهي. كان الرجل الأسود في حاجة لورقة تثبت انتماءه لربّ عمل ما، مثل شهادة ميلاد أو هويّة، وفي حالة لم يمتلكها يقبض عليه ويسلم للعمل، وهكذا؛ ما يجعله مضطرا للهروب للسجان في نهاية الأمر. في لقاء تلفزيوني أذيع في عام 2008 في تلفزيون محلي أمريكي يشرح دوجلاس سبب توجهه لكتابة هذا الكتاب، ويروي قصة معايشته للعنصرية الأمريكية في أوجها واندثارها - إن حصل ذلك فعلا -. كان دوجلاس في الفصل الدراسي الأول في مدينته الصغيرة في ولاية ميسيسيبّى، الفصل الدراسي الأول الذي يلتحق به رسميا طلاب بيض وسود في عام 1964. كما شهد في طفولته قصص إغارة أفراد جماعة كلوكلس كلان على السكان الآمنين وقتلهم وحرقهم وصلبهم، وامتداد هذا العنف وعدم اقتصاره على الأمريكيين من الأصول الإفريقية، بل إلى البيض الذين يقدمون لهم المعونة والحياة الكريمة. كتاب ""العبودية باسم جديد"" ينبش القبور الضحلة للعمال الذين أنهكت أجسادهم حتى الموت، تلك الأجساد التي ما إن تتعلم المشي المتزن حتى تخطف من الحياة وتسخّر لبناء بلدٍ لا ينعم فيه هذا العامل بأي حقّ حتى يتوقف جسده عن العطاء ويدفن في الأراضي الجرداء حول المناجم والمصانع. إن ما حدث في تلك الحقبة هو خزي للمجتمع الأمريكي بأكمله، للحكومة أولا وللشركات المنتفعة ثانيا وللأشخاص الذين علموا بهذه الجرائم وصمتوا في سبيل الثراء السريع ثالثاً. كيف تأتي المنظمات الحقوقية الأمريكية والإعلام وأي جهات أمريكية أخرى لتطالب شعوب العالم بالنظر لماضيها ومشكلاتها العنصرية والخروقات الإنسانية الحاصلة في أراضيها دون الالتفات لما حصل على أرضها في القرن الماضي - وما زال يحصل -؟ يقول دوجلاس في لقاء تلفزيوني آخر: إنّ هذه الجرائم حقيقة ينبغي ألا نغض البصر عنها، ويجب أن تدرّس وتناقش وتعرض بلا توقف. إن الخلل الذي حصل في تلك الحقبة بعد أن أعطى الأمريكيون حريتهم وفق القانون قابل للتكرار، خصلة الجشع والاستبداد لا يمكن اقتلاعها بإعلان لقانون جديد! كتاب بلاكمون لم يحصل على جائزة بوليتزر فقط، بل رشّح وحصل على جوائز عدة، وحصلت مقالات كتبها حول مشكلات المجتمع الأمريكي والانتخابات وكارثة إعصار كاترينا على جوائز وترشيحات أخرى. لم أتمكن من تجاهل قراءة كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي بالتزامن مع هذا الكتاب، وتوقفت طويلا عند اقتباس يعبّر عن أحداث كتاب دوجلاس. الاقتباس الذي يقول فيه الكواكبي: ""الأمة التي لا يشعر كلّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقّ الحريّة""!