صحفي في قامة روبرت فيسك لم يكن بحاجة إلى شهادة من أحد، لعلو كعبه في الميدان الإعلامي ولقدراته الصحفية الكبيرة والتي من أهمها تخصصه في القضية الفلسطينية وأيضا في لبنان وشجونه. إلا أن روبرت فيسك قدم في نهاية مرحلته الإعلامية هدية لا تقدر بثمن للمشككين في كل أعماله والمتهمين له بعدم المصداقية. وكانت هذه الهدية عبارة عن إعتماده على وثيقة مزورة تقول أن الامير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية السعودي قد طلب في خطاب رسمي مكتوب التعامل بقوة مع المتظاهرين الشيعة في المنطقة الشرقية من السعودية. وبعيدا عن هل يقدم الامير على فعل ذلك من عدمه، فإن إعتماد الأمير فيسك وهو أمير في الإعلام على وثيقة مزورة، سخر من مزورها أكثر من نعرفهم حينما أطلعوا عليها لرداءة عمله، كانت غلطة معلم يدفع الآن ثمنها من مصداقيته الإعلامية التي بناها عقودا قضاها في مخيمات الفلسطينيين يقاسمهم الخبز ويدافع عنهم بقلمه. كان دفاع فيسك عن الفلسطينيين مثار فخر لنا نحن العرب. وكان من أوائل من سلط الأضواء على عذاباتهم، ومن أكثر الإعلاميين الغربيين انصافا لهم ولو نعرف كم مسه من اذى لرققنا لحاله بدلا من التشفي منه اليوم بعد وقعته الاخيرة. كنت من ضمن الزملاء الذين تابعوا تقاريره الأخيرة عن السعودية والبحرين وخلال قراءتي لبعضها كنت ارفع عيني إلى اسم الكاتب متشككا في انه هو روبرت فيسك الذي يكتبها. وكواحد ممن تعلموا من فيسك الوقوف بجوار الحقيقة في الإعلام وتتبع الطريق السوي في التغطية الإخبارية وحتى في الرأي، إلا أن ما كان يمضي فيه فيسك خلال الأزمات الأخيرة ليس سوى طريق مظلم زاد عليه فيه انه أي فيسك كان يمشي وبجواره أدلاء اصابهم العمى عن الحقيقة. كلنا نبحث عن العدالة وحقوق الانسان، وبعضنا يتشدق بهذه المُثل ليل نهار وهو أبعد الناس عنها. لكن أن تغدر بصحفي واعلامي كفيسك وتقوده الى التهلكة فهذه لعمري من أشد الوقائع واسوأ النوازل الإعلامية. يبدو ان فيسك قد أقنعه بعض من إعلاميينا وناشطينا العرب، بأن الوثيقة حقيقية، فإستولوا على قلمه وسطروا عبره التزوير. كان لسان حالهم أن أميرا كبيرا من العائلة المالكة السعودية لا يكلف نفسه الذهاب للمحاكم، وانه يخشى من ان تقوده المحاكم إلى متاهات قد تقود القضية إلى دهاليز مظلمة. أجزم بل واكاد اقول انني اعرف ان بعض من ناشطينا هم من اقنعوا فيسك بسلامة الوثيقة التي بين يديه. وللعلم ليست هي المرة الاولى التي يكتب فيها فيسك معلومات مشكوك فيها عن دول خليجية، لكن الحقيقة أن فيسك مهنيا لم يكلف نفسه وقتا لتوثيق الوثيقة والتأكد من صحتها. بالطبع لن يستطيع فعل ذلك. فالسعوديون الرسميون لا يتيحون لفيسك القدرة على التأكد، ولا أن يمارس عمله بحرية في المملكة، هذه الارض التي يعتبرها الاعلام الغربي مملكة الصمت. كثيرا ما أرى أعين أصدقائي من الإعلاميين الغربيين حينما يلتقون بي قبل سفرهم للسعودية محاولين الاستفسار ومعرفة أين ومن يلتقون به. أرى تلك الأعين وكأنها ستستقل قاربا منهكا في أنهر أدغال الامازون، لا تعرف ما يخبئه القدر لها. من صنع هذا الشك، ومن رسم هذه الصورة عن المملكة؟ ومن يجعل بلادنا أشبه ببلاد الواق الواق للاعلاميين الغربيين؟ الجواب معروف، وهو من ورط فيسك في وثيقة مزورة تكاد تنهي حياته الصحفية التي خدم فيها قضية القدسوفلسطين أكثر مما خدمها إعلاميون عرب بل وسعوديون لا هم لهم سوى التفاصيل. يرى فيسك ان الحقيقة هي دائما لدى من هم خارج دائرة القوة، وقد يكون ذلك صحيحا. لكنه في احيان كثيرة يجانب الواقع والحقيقة، فالجموع احيانا تبالغ وتخطئ مقتنعة بأن ذلك في سبيل العدالة مما يجعل الإعلامي ضحية لدوافعها ورغباتها وسط جهله وغياب المعلومة الحقيقة عن متناول يديه. روبرت فيسك لا يعرف شيئا عن بلادنا. أعينه التي يرى فيها المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الاخرى هي إعلاميون فلسطينيون ولبنانيون يساريون او شيعة، وكذلك ناشطون سعوديون يختلفون مع النظام او على الاقل ضد بعض توجهاته. لماذا لا يكون لفيسك الحق في تغطية الشؤون السعودية، لماذا لا يزور المملكة ويرى هل حقيقة ما يكتبه أم لا، ولماذا لا نترك للإعلام الغربي ان يجول في بلادنا ويتعرف على قضايانا؟ بالطبع نحن منْ ساهم في تزوير الوثيقة. زورها مواطنون غاضبون، وروجها ناشطون متحيزون. والنتيجة ان فيسك وجريدته ليسا المدانين الوحيدين. الحكومة التي لم تطفئ غضب ابنائها، وتحتوي ناشطيها بعدلها وتسامحها، شريكة أيضا في العمل. لن اكون منحازا لفيسك واقول انه ضحية. أيضا أقول له لماذا يكتب دون تأكد، ولماذا يعتمد على مصادر غير مطلعة او منحازة، ولماذا بالله عليك يا فيسك تكتب وكأنك معارض بحريني او سعودي. وايضا اقول لفيسك لماذا بالله عليك لم تكتب يوما عما يفعله حزب الله او غيره في لبنان بل هل من المصداقية الاعلامية ان تكتب مبرئا حزب الله من دم الحريري، بل وتزيد على ذلك بأن تنضم الى جوقة اعلام إيران في قضية البحرين دون ان يكون لتاريخك الاعلامي دور في لجم حماسك. كذلك قضى فيسك أكثر من ثلاثين عاما في بيروت ولم يكتب يوما عن ما فعله ويفعله السوريون في لبنان ولا عن القتل والإفساد وعمليات النهب التي كانت تتم امامه خلال فترة عمله. وهل الديمقراطية التي هلل لها فيسك في البحرين تتناقض مع قوله في احد كتبه عن العرب والديمقراطية انه ما يجب فعله لمساعدة العرب حتى يحظون بالديمقراطية هو «تركهم يطهون أنفسهم ببطء بعصيرهم الخاص بهم». اذا لماذا لم يترك فيسك البحرين تطهو نفسها بعصيرها الخاص؟ لماذا قاتل ضد الحكومة السعودية عقودا ولم يدعها وشعبها يطهون بمرقتهم ديمقراطيتهم؟ بعد كل ذلك، الجميع أخفق. الحكومات التي لم تعط للإعلام مساحة حرة، والإعلامي الذي اصبح رفيقا حزبيا لا يدري أيكتب منشورا أو مقالا أو تحقيقا أو خبرا. لكن في النهاية لن ننسى لك يا فيسك ما قدمته للقضية الفلسطينية. وسنظل مجللين رأسك بغار المحبة والعرفان، حتى وان اخطأت مرة، فميزان حسناتك مع أخوتنا في فلسطين يكفي كي نغفر لك زلاتك في الخليج.