كلما حاول أحد في هذا المجتمع أن يؤدي دوراً مختلفاً إبداعياً في مجاله اتهم بالتغريب. لا أدري إن كان الإبداع ارتبط ب"الابتداع" عند العرب كما يقول أدونيس. كلما جاءت موجة جديدة في الشعر أو الأدب، أو الرواية أو التقنية، أو الكوميديا أو الفن اتهمت بالامتهان والتغريب. حينما اتجهت أم كلثوم لألحان محمد عبد الوهاب التي تحمل جملاً موسيقية جديدة اتهموها بتضييع الفن الأصيل، وها هي اليوم تلك الأغاني ضمن الكلاسيكيات المهمة، ومع كل موجةٍ فنية تأتي قصص الأصالة وتهم التغريب. اليوم نحن أمام موجة ربط لأي إنجاز مختلف وغريب بأنه من التغريب، وهذا من المضحكات، ولكنه ضحكٌ كالبكاء! قلّبت التحقيق الذي نشرتْه "الوطن" قبل أمس حول ظاهرة "ستاند أب كوميدي" والتي احترفها بعض الشباب المبدعين في "اليوتيوب"، يناقش التقرير علاقة تلك الظاهرة ب"التغريب"! بالطبع جاءت المشكلة الأولى من الاسم:" Standup Comedy" والذي يرى معاذ الحلفاوي أن لا مرادف له بنفس المستوى من الدلالة في اللغة العربية، مع أن مصطلح "الكوميديا الارتجالية" هو أقرب المعاني لتلك الظاهرة، هذا مع أن حلفاوي من الداعمين لتلك الظاهرة، ولا يرى فيها أي تغريب، أو حتى تشريق، وأتفق معه في هذا الرأي، لأن الفنّ فن يحاكم للمضمون الذي يطرح في المحتوى، ولا يمكن أن نرفض الفنّ لأن الغرب بدأه، أو لأنه من التشبه الفني بالغرب. الذي أختلف معه الفنان عبد الإله السناني الذي أدخل ما لا علاقة للكوميديا به، حين قال عن ظاهرة "الكوميديا الارتجالية":" هذا الفن يحتاج إلى ثقافة ولياقة ودراية بمخارج الحروف، ونفس طويل وقدرة على التعامل مع الجمهور، مطالبا ممثلي هذه العروض بتطويع التقنية وإبراز شخصياتهم والتركيز على الإرث الثقافي الموجود في العالم العربي والإسلامي، دون تقديم صورة مكررة من مشاهير عالميين عرفوا بهذا الفن، حيث يختلف فن النكتة الغربي عن العربي". معظم المشاهد التي رأيتها والحلقات التي تابعتها للشاب في مسلسلاتهم على "اليوتيوب" كانت نابعةً من العمق السعودي، نقاش حول أزمات الخطوط، وحول التعليم والمناهج، وعن تصريحات المسؤولين والأخبار، وعن مفارقاتٍ سعوديةٍ ساخرة، لا أظنّ أن الإلحاح الدائم على قصة الإرث الثقافي العربي الإسلامي ضروري لأن الإرث بداخلنا تعبر عنه جباهنا ولهجاتنا وسحنتنا، نحن بذاتنا كائنات جاءت من ذلك العمق ولا نستطيع الانفكاك عنه، فأسلوب "التحذير" من الوقوع في "تقليد" لفنانين "عالميين" لا أظنه ضرورياً. أرى أن الترحيب بالإبداع جزء من الحيوية الاجتماعية التي ننشدها، فأهلاً بالكوميديا الارتجالية، فهي كوميديا إنسانية ليست ملكاً للغرب ولا محرمة على الشرق!