أثناء هدوء الإجازة عن الكتابة يمكن القراءة بتأنٍ وتأمل أكبر، ومن الرسائل الإلكترونية التي يتبادلها الناس اخترت رسالتين، مركِّزاً هنا على ما يهم، وهو الفكرة مع الفحص. تروي الرسالة الأولى حكاية لمجموعة من الناس «يمكن من الرَّبع»، كانوا في مطعم بألمانيا، وكالعادة امتلأت طاولة طعامهم بوجبات لم يجهزوا عليها كلها، فبقي منها الكثير، دفعوا الحساب، وقبل خروجهم استوقفتهم امرأة ألمانية تحتج لترك الطعام الزائد من دون أكل، وكأنها ترفع صوتها قائلة: «لماذا طلبتم فوق حاجتكم»، ثم - وفق الرسالة المتداولة - اتصلت بجهة حكومية تعنى بالحفاظ على الموارد الاجتماعية، ليحضر موظف ويحرر مخالفة بمبلغ كبير، والمستند الرشيد للموظف أن الموارد الاجتماعية حق للجميع لا يجوز لفرد أو مجموعة العبث بها. سألت صديقاً لي من المستقرين في ألمانيا بعد أن «تَأَلْمَنَ» - لا تسألوني لماذا «تَأَلْمَنَ» – سألته: هل هذا صحيح ويجري في ألمانيا؟ فنفى ذلك قائلاً: «في ألمانيا مثلما في كل البلدان كل واحد يمد رجليه على قدر فلوسه». لا شك في أن ثقافة المجتمع هناك ترفض الإسراف، وتشمئز منه أكثر مما يحدث في مجتمعنا، بل إن المقارنة هنا لا تصح. لكن، حتى لو تم نفي القصة، فإن الفكرة جميلة ورائعة، وفيها حفظ للنعمة، وإعادة الرشد لمن فقده. للأسف ليس لدي صديق مستقر في إيطاليا لأسأله عن صحة الرسالة الثانية، لكن هذا لا يهم كثيراً، لأنها تحتوي على فكرة أكثر روعة. في المقهى يأتي زبون واحد، ويطلب فنجانين من القهوة، ويدفع ثمنهما، ويخبر النادل بأن واحداً منهما على الحائط، يكتب النادل على ورقة «فنجان قهوة واحد على الحائط»، ويلصق الورقة على زجاج المقهى، يمر محتاج أو ضعيف يتمنى فنجاناً من القهوة، لكنه لا يملك ثمنه، يرى الورقة فينزعها ويقدمها للنادل ثم «يستمخ» مع الفنجان. الفكرة الأخيرة تحتاج إلى ثقافة اجتماعية متينة. سلسلة من الخصال. نبل من الزبون الأول، وأمانة نادل، وقناعة من المسكين، في حين تحتاج الفكرة الأولى إلى مؤسسة لن تقوم إلا بثقافة اجتماعية تسندها، وكل هذا لا يتوافر في مجتمعنا ما دمنا نستمتع بالمباهاة وإشباع العين لترطيب اللسان... الحصان، ليصهل في كل مكان.