يتسمر أي زائر لمكتبة كليفورد بجامعة سالفورد البريطانية أمام لوحة كبيرة في البهو الرئيس. هذه اللوحة ليست من أعمال الفنانة جيليان ويرينج، أو الفنان دامين هيرست. لكنها لوحة يسجل عليها طلاب الجامعة انطباعاتهم واستفساراتهم حول المكتبة ومرافقها. إن ما يميز هذه اللوحة الملاحظات الدقيقة المكتوبة والردود السريعة التي يتناوب على الإجابة عنها فريق المكتبة. فهناك طالب يتساءل عن سبب غياب كتاب رغم أن موقع المكتبة يؤكد وجوده، وآخر يقترح توفير خدمة إعارة شاحن لبطارية جهاز الآيفون لمرتادي المكتبة. الأجمل من الملاحظات والاقتراحات هي إجابات فريق المكتبة. تتم الإجابة عن كل سؤال خلال أقل من 24 ساعة. ولا يسمح للموظفين بالانصراف من المكتبة قبل الإجابة عن كل الاستفسارات. وقد استوقفتني قبل أسبوع خلال زيارتي للمكتبة ملاحظة كتبها طالب بحرقة انتقد من خلالها أداء موظفة بعينها وعدته حسب زعمه أن تأتي لتساعده في تصوير بعض الوثائق لكنها لم تأت. وطالبها في اللوحة أن تعتذر له على رؤوس الأشهاد عن الوقت الذي بدده في انتظارها ولم يستفد منه. وتساءل: "أليس الوقت له ثمن؟". وبعد أقل من ساعة كتبت الموظفة ردا قالت فيه :"أعتذر لك أمام الجميع. أخطأت في حقك. انشغلت مع طالب آخر تعرض جهازه لمشكلة تقنية عاجلة. وفور أن انتهيت منه جئت إليك، لكن لم أجدك. سأتقبل أي قرار ستتخذه إدارة المكتبة بحقي". إن هذه اللوحة والتعاطي معها يجسدان الشفافية التي نسمع عنها في بعض دولنا العربية ولا نشاهدها. فنحن نتميز عن سائر العالمين في وضع الصناديق المغلقة للشكاوى. لكن لا نعرف ماذا يدخل في هذه الصناديق وماذا يخرج منها إن خرج أصلا. ونتساءل هل لهذه الصناديق قيمة أم مجرد زينة لا تكتمل مكاتب أي مؤسسة عامة أو خاصة إلا بها؟ قبل سنوات خلال عيادتي لمريض في مستشفى حكومي في الدمام كتبت شكوى طويلة حول نظافة دورات مياهها. وأودعتها في الصندوق الخاص بالشكاوى. بعد شهر من الشكوى زرت المستشفى وسألت عن مصيرها. توجهت إلى أكثر من شخص بحثا عن إجابة دون جدوى. وخلال انتقالي من مكتب لآخر التقيت بصديق قديم. وبعد الكثير من الكلام والذكريات سألته عن كيفية متابعة الشكوى التي كتبتها. فضحك عاليا وقال: "يرحمها الله" دلالة على وفاتها مؤكدا أنه طوال عمله في المستشفى لأكثر من أربع سنوات لم يسمع أي نقاش حول شكوى تم تقديمها عبر هذه الصناديق. ربما لا يجب أن أعمم تجربتي الشخصية مع صندوق الشكاوى في ذلك المستشفى على جميع المؤسسات، بيد أنها تعطي مؤشرا عن الواقع. فللأسف تثبت هذه الصناديق يوما بعد يوم أنها لم تكن يوما من الأيام وسيلة لعلاج مشكلة، بل ربما طريقة لدفنها! إن الشفافية لا تتجزأ، فإذا كنا نطالب بتوفرها على مستوى الميزانيات والعقود وتنفيذ المشاريع الكبرى، فنحن نطالب بها في كل مفاصل حياتنا. في كل شؤوننا. لمَ لا تتسم كل المؤسسات بالشفافية تجاه التساؤلات والملاحظات التي تردها من المراجعين؟ لمَ لا تعتمد على برامج مفتوحة لمواجهة الأسئلة والملاحظات بدلا من توفير أوعية أو ربما مقابر للاستفسارات؟ فهل الطالب في بريطانيا أهم من الطالب منه في السعودية. الطالب هناك يحصل على إجابة عن استفساره عاجلا في أحيان كثيرة. في المقابل قد تتأخر الإجابة عن استفسار بسيط في وطننا لأكثر من 3 سنوات حسب المدون عبدالله أباحسين. فقد كتب عبدالله في حسابه بتويتر في 12 يونيو 2011 أنه بعث برسالة إلكترونية إلى دكتور في إحدى جامعاتنا قبل نحو 36 شهرا ولم يرد عليه سوى قبل أيام قليلة. عدم وجود نظام صارم تجاه الإجابة عن التساؤلات والملاحظات حوّل صحفنا ووسائل إعلامنا إلى منصات للشكاوى بدلا من أن تكون مساحة لفتح الملفات والعقول. إذا لم تحرص كل مؤسسة عامة وخاصة على الرد والتجاوب مع الاستفسارات والملاحظات لا يمكن أن تتقدم قيد أنملة. فالنقد يقوّم الأداء ويمنحك خيارات وأبعادا جديدة للتطوير والتنمية دون مقابل. تمسكنا بصناديق الشكاوى المغلقة حتى أصبحنا نشبهها. منغلقين، منكفئين، ولا نتحرك. فمتى نتحرك؟