انزوى المجتمع الوطني في المملكة مرةً أُخرى في حلقة نقاش حادّة عن حقّ قيادة المرأة للسيارة، ولتفكيك المسألة من جذورها كمحاولة للفهم المنطقي سنعود في المقال للأصول في فهم الأشياء ومواقف الإنسان منها فطريًّا والمسلم تشريعيًّا على الأقل؛ لإعادة ترتيب الصورة قبل الحكم عليها، بغض النظر عن المحتوى؛ فالسيارة كوسيلة نقل كما هو أصلها في التعريف الإنساني البسيط، أو ما درج عليه علماء التفسير الحديث قبل الجدل المعاصر بأن حضور مفردة السيارة أو عربة النقل هي ضمن ما قرره الباري -عز وجل- في قوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) بعد ذكره عز وجل الخيل والبغال والحمير للركوب، ويأتي سياق "ما لا تعلمون" في أدوات النقل الحديثة التي لا تخطر على تصوّر المجتمع البشري في عصر الرسالة، حتى عدّه بعض المفسرين أنّ هذا السياق المحدّد بموضوع الآية يأتي ضمن الإعجاز القرآني بأن ما ييسره الله من استحداث وسائط النقل التي أتت فيما بعد خارج إطار الاستيعاب البشري في ذلك الزمن وتقرير مباشر لحدوثها من سيارات وطائرات وقاطرات، حتى سفن الفضاء وكل ذلك جاء في سياق: ويخلق ما لا تعلمون.. وكأنما الإيحاء الإعجازي الذي يُذكّر المجتمع البشري بسُخرة بعض الحيوانات وتوطئتها للركوب والنقل للجنسين حتى يتفكر بتقنية هذا المشهد في ترتيب الخلق والحياة لهندسة الكون، هو أيضًا يشير إلى ذلك المجتمع في كل عصر بعده، بأن ذات الدلالة مستمرة تعلمون منها ما ترون وما لا تعلمون من أدوات ووسائط النقل حتى قيام الساعة. ولذلك لم يشتهر في العالم الإسلامي حركة جدل عن قيادة المرأة للسيارة كما جرى في المجتمع الوطني السعودي، وإن كان الجدل قد يَرِد في مسائل عدة من تطورات الزمن تحتاج إلى وعي مستقر لتحديد الموقف منها في سياق عادات الدنيا، وحوائج الإنسان المطلقة الإباحة في الأصل. هكذا تركها الشارع لأنها سِمة من خلق الله لعباده في المباحات ولا يلزم لإباحة المُباح تأصيلٌ لإباحته كما ورد النص بالتعميم في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الأرزاق والمعاشات والسياحة في الأرض وغير ذلك. هذا جانب، والجانب الآخر حين تكون تطوّرات الزمن ووسائطه من المؤثرات المركزية أو الفرعية على مصالح التشريع لتحقيق العدل أو تنظيم العمل والإنجاز وتسيير مسارات الإدارة العامة للدولة والمجتمع أو تقعيد أصول الفقه وتحديد مقاصد التشريع من الكتاب والسُنّة، وأين يقف هذا التطور العدلي أو التقني أو التشريعي من قواعد الدين القطعية ونصوص الوحيين. ولا جدل في تقديري قبل الولوج لتفصيل الظرف التشريعي أن قيادة المرأة للسيارة في الإدراك البدهي أنها من القسم الأول، أي أمور المباحات في أصل الأشياء، ولعل ذلك ما جعل أنّ الجدل لم يشتهر في العالم الإسلامي كما هو في المملكة عن القضية، وهو ما يقود إجمالاً لتساؤلات: هل القضية مرتبطة بأصلها أم أنّ هناك محركات لأهداف أخرى تسعى لجعل هذه المسألة موضع جدل عاصف دوريًّا لتجاوز قضايا أخرى أو صرف نظر عن مسارات رئيسية من خلال مواجهة عنيفة عن القضية التي تعصف بحراك الجدل المجتمعي دورات زمنية عديدة؟ وكيف يُفهم في هذا الإطار قضية القول بخصوصية الحالة السعودية، خاصة أنها أضحت يُزج بها في كل مسار، وهي مسألة تحتاج للضرورة أن تُناقش وتُفهم وتُحدّد؟ لأنّ التمسك بهذا الطرح دون شرح أو توضيح للرأي العام الوطني والعربي والدولي يخلق فراغًا وإشكالية وشكوكًا للمتلقي لهذا العذر المستخدم باستمرار؛ لأن النّاس والشعوب يتداولون قضية الخصوصية الوطنية؛ أي تركيبات المجتمعات، والخصوصية المكانية أي الخريطة الجغرافية، والخصوصية التاريخية لأحداث وقعت في هذا القطر أو ذاك، لكنّ الخصوصية الدينية التي جعلت الرأي العام العربي أو الإسلامي يردّد أحيانًا كمحاولة منه للفهم مصطلح - الدين السعودي – وهو مصطلح خاطئ لا يوجد شيء اسمه الدين السعودي؛ فالأصل أن المسلمين سواسية في التشريع والانتماء والمصدر، وهو الكتاب والسنة وأصول التشريع الأُخرى المقررة في قواعد أهل السنة. ولذلك هكذا فهِمَ العالم العربي والإسلامي وفَهِمنا نحن كمثقفين أن الديباجة التي صُدّرت حين تجديد تشكيل هيئة كبار العلماء كانت أهم من أسماء أصحاب الفضيلة؛ لأنها أعادت تسمية المرجعية التشريعية السعودية بأصل المنهج العام المتسلسل في تاريخ التشريع الإسلامي السني كثقل رئيسي لمدرسة فهم النص، وهي مدرسة المذاهب الأربعة، وكأنّما البيان يُصحّح التسلسل بأن المملكة تنتمي للعالم الإسلامي السنّي وأصوله التشريعية، ولا تعتقد بضلاله ولا تهميشه، وأن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تُؤخذ كدعوة عالم انتمى للمدرسة الحنبلية وفرعٌ من الأصل، وبالتالي انتماء المملكة عاد جماعيًّا لا انعزاليًّا أو تشطيريًّا بينها وبين العالم السُنّي، وكما هو المنهج في تحديد قول الجمهور والإجماع المعتبر تُقرأ مدارس العلماء، وتُقيّم من خلال الأصل وهو مدرسة أهل السنة وقاعدتهم الرمزية المهمة المذاهب الأربعة، فتحدّد مسارات الاجتهاد دون عزل أو رفض أي اجتهاد معتبر.. فهل فَهْمنا خطأ وهناك رؤية للآخرين عن مدرسة أهل السنة الكبرى..؟ وذكرنا في مقدمة التفصيل المنطقي عن الخلاف عن قيادة المرأة للسيارة مقولة الخصوصية: كيف تُضبط؟ وهل يُحتجّ بها؟ وما الذي يُقصد بالتديّن السعودي؟ وبقي أن نُجيب على طرح وجود الحرمين الشريفين كاحتجاج شرعي يُغيّر مسار الأحكام بحسب اعتقاد البعض، وبلا شك أن وجودنا في دولة واحدة تضم أقدس بقعتين ومنار مكاني للرسالة الإسلامية محل تشريف، لكن هل هو محل تشريع استثنائي في غير أحكام المدينتين المقدستين؟ هذا لا يُسلّم وربط الدولة في تعريف نفسها بالحرمين الشريفين هو من باب التشريف بمهمة التكليف كدولة ضمّت إقليم الحجاز، ولذلك اُعتبر الملك عبد العزيز -رحمه الله- موحّدًا ومؤسّسًا معًا. أي أن ضمن بلاده بلاد الحرمين الشريفين كإدارة سياسية وهذه البلاد هي الحجاز، كما هو في التعريف الشرعي لبعض الأحكام ذات العلاقة، وما قصدتُه أن الأحساء بلدي -على سبيل المثال- تتشرف بوحدتها مع الحجاز عن طريق الدولة، ولها مكانتها وتاريخها، لكن ليست هي الحجاز إقليم الحرمين الشريفين، وليس لها مكانة الحجاز المنيفة، وكذلك نجد وحائل وهكذا، ولكن الواجب احترام وتقدير أهل الحجاز ومدارسهم ومعاهدهم وشخصياتهم وإكرامهم، وليس استخدام مسمّى التعميم للحرمين الشريفين للإساءة لهم أو الاحتجاج بتغيير حكم شرعي أو عرف مجتمعي بناءً على دعوى أي شخص كاتب أو واعظ وهو يسيء لأهل الحجاز، ويحتجّ عليهم بأنه من بلد الحرمين الشريفين، وهو خارج الحجاز فقط للاستعلاء عليهم ونبذ أقوالهم والتحريض عليهم. هذا لا يستقيم كمبدأ، وإجمالاً يحب أن تفكّك هذه الدعوى حين تُستخدم للاستدلال الشرعي الاستثنائي في غير الأحكام ذات العلاقة بالمدينتين المقدّستين. والحادثة الأخيرة للأخت منال الشريف المقيمة لدينا في الظهران إحدى حواضر الأحساء الشمالية، وهي من أشراف الحجاز، وآل بيت النبوة الكريم سنتناولها في ثلاثة مسارات لنفهم الوضع كما يجب شرعيًّا ووطنيًّا للإنصاف والعدل. المسار الأول: التفريق بين مطالبات الأخوات والشخصيات الاجتماعية والوطنية للحق الطبيعي لقيادة المرأة للسيارة كمطالبات فردية أو جماعية، وبين فكرة الخروج الجماعي المدعوّ لها من بعض الأخوات في احتجاج جماعي محدد بتاريخ في حزيران الجاري؛ فهذه الدعوة الجماعية التي أحترم شخصياتها أرى عدم مناسبتها، وأنها قد تُعقّد الأمور، وهناك أولويات وطنية سياسية واقتصادية وحقوقية أولى بالاهتمام والنقاش والعمل، خاصة في قضايا المعتقلين السياسيين وترسية أنظمة الحقوق العدلية، أو المعطلة لمصلحة الموقوفين وباقي الفضاء الحقوقي الدستوري المؤسس لدولة الدستور، والحقوق والعدالة الإسلامية الشامل لكل أبناء الشعب، والمتعثّر جدًا في مساراته مع الأسف الشديد. فالاتحاد في ذلك بدلاً من توتير المجتمع باحتجاج جماعي لقيادة المرأة للسيارة أهم وأوجب إسلاميًّا ووطنيًّا، وما جرى من سياقة فردية لبعض الأخوات كان منفصلاً عن هذه الدعوة، وقد تحدثت الأخوات عن أن هذه ضمن ممارسة طبيعية للفت النظر للحاجات الضرورية للمرأة السعودية لقيادة السيارة، وهكذا يجب أن يُنظر لها، ولا يُحرّض عليهن، وأتمنى من باقي الأخوات إلغاء التاريخ الجماعي، كما أنني أتمنى من النخبة الثقافية والمؤسسات الرسمية عدم الاندفاع في مواجهة هذا المشهد أو تصعيد الأمور. ولعلنا هنا نشير إلى المعالجة الأولى لأمارة الشرقية لموضوع الأخت منال حيث أُخذ تعهُّد على الشريفة منال الشريف ذات الخطاب الوطني الحريص على الإسلام وأحكامه، كما بينت ذلك في بيانها ثم أُطلقت، ولم يُفهم حتى الآن ما جرى بعد ذلك من تجاوز حقوقي مؤلم من بعض الجهات التي صعّدت وأساءت للمملكة، وتمّ تجاوز حي (أرامكو) السكني بمبالغة أمنية، ثم اقتحام الشقة واعتقال الأخت منال مرة أخرى، والتضخيم على تصرّف فردي بسيط أكثر ما يُقال فيه مخالفة مرورية، وعمومًا عادت أمارة الشرقية لتسوية الوضع، وأُطلقت منال التي لم يوجد أي مسوّغ لاعتقالها، بعد أن أُوقفت و تعهّدت. أما المسار الثاني فهو موقف جملة من أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة، الذي لم يُستدرج كما جرى في بعض الحالات السابقة من لغة التحريض والتضليل والإثارة والصراع المجتمعي؛ فقد قرأت شبه إجماع لقطاع واسع أن أصل قيادة المرأة هو الحِلّ، وأن قول بعضهم أو غالبهم للمنع هو لتقدير الحالة الإدارية والمجتمعية، وليس حُكمًا بل فتوى تقديرية، ولا يعني ذلك إدانة الملايين من المسلمات خارج المملكة اللاتي يقدن السيارات ومنها دول الخليج العربي، فيما أكّد العديد من الشخصيات الإسلامية والشرعية قناعتهم بجواز الأمر، وأنه ينبغي أن يُنظّم الأمر مروريًّا، وتُعطى التراخيص بناء عليه، وهذا الطرح الشرعي الواسع المختلف في التفصيل ينبغي أن يُحترم ويُقدّر ويُحاور، وأن لا يُستدرج المجتمع لأصوات المتطرفين من الوعّاظ التحريضيّين أو مقابله من العنف الاتهامي من بعض المثقفين، وإن كانت مسؤولية الوعّاظ المتترسين بدعوى وعيهم الشرعي فيعمّمون ويضلّلون ويفسقون أكبر؛ لأنهم ينسبون صراعهم الشخصي أو نقصهم العلمي للدين، وهم تحت ضغط الصراع الفكري ومصالحهم التنافسية. هنا نصل للمسار الثالث الأخير وهو ضرورة أن تتبنى الدولة حسم هذا الملف بانتداب شخصيات شرعية ووطنية قديرة تدرس الوضع، وتوصي بالإعداد الفوري لتمكين المرأة من حقها الاحتياجي، وبالإمكان أن تُقسّم القضية ما دام أنّ هناك مخاوف على سبيل المثال من الطرق الطويلة فتُصدر لوائح قبل نهاية هذا العام بمنح أعمار محددة بعد الثلاثين، وخاصة ذوي الظروف رخص قيادة السيارة في داخل الحواضر المدنية أو الهِجر لأبناء البادية المحتاجين للتنقل وتُحظر القيادة في خارج الحواضر ثم ينظر في الأمور الأخرى، أما سدّ الأبواب بحجج تقديرية لم يرد فيها النص في سلسلة ماذا لو..؟ لتبرير موقف الرافضين كانتصار فكري على خصومهم فهي أجواء مؤسفة ولغة حين تَفرض روحها على المجتمع عبر القهر والطعن في أعراض الناس.. فهي مؤشر على أن ثقافة الأزمة هي من يُدير الوطن، لا ثقافة العدل الشرعي والوطني.