د. الشريف حاتم بن عارف العوني - نقلا عن الاسلام اليوم المؤامرة هي: خطة خفيّة يحيكها العدو لتحقيق مطامعه فيك، والعدو هو كل من له فيك أطماع أو مطالب غير مشروعة، وليس هو المحارب فقط. ويتضح من هذا أن خصيصة المؤامرة التي تميزها عن غيرها من الخطط هي أن تكون خطةً خفية، ولذلك فإن الخطة بمجرد إعلانها لن تكون مؤامرة، بل تنتقل بإعلانها من كونها مؤامرة إلى أن تصبح سياسة معلنة. ومن ضعف التدبير أن نتعامل مع السياسات المعلنة تعاملنا مع الخطط الخفية (المؤامرات)؛ إذ لكل نوع من هذين النوعين من خطط العدو منهجٌ معين لمواجهتها. والمقصود بخفاء المؤامرة هو أن يتعمد صاحبُ الخطة إخفاءها، بغض النظر عن تحقُّقِ هذا الخفاء أو عدم تحقّقه. ولذلك فقد نطّلع على بنود تلك المؤامرة الخفيّة، ومع ذلك لا يخرجها اطّلاعُنا عليها عن كونها مؤامرةً خفيّة؛ وذلك في مثل ما لو اطّلعنا على تلك البنود بخفية أيضًا: بنحو تجسسٍ أو بتسريبات عميلٍ خائن، وقد نستلمح بعض تلك البنود من خلال تحليل عميق للسياسة المعلنة للعدو ومعرفتنا لطبيعة علاقتنا معه ولأطماعه فينا. وخفاء المؤامرة هذا، والذي هو أحد أهم خصائصها، هو ما يجعل توقّعَ المؤامرات مجالاً خصبًا للخيالات والشطحات عند كثير من الناس. وفي الطرف الثاني: فإن خفاء المؤامرة هو ما يُغري المبالغين في إحسان الظن برفض التصديق بوجود المؤامرة الحقيقية التي تظهر بأدنى تحليل واقعي للأحداث والإشارات ودلالاتها؛ فمبالغتهم في إحسان الظن تجعل نظرتهم للحوادث والقرائن نظرةً سطحية، وهذا ما يؤدي بهؤلاء إلى تغليط التوقعات الصحيحة للمؤامرات، فيُوقعهم ذلك فريسةً سهلةً لفخاخ المؤامرات. وحتى لا نقع في فخّ عقدة المؤامرة، ولا أن نكون من ضحايا المؤامرات بسبب غفلتنا عن وجودها، يجب علينا أن نفرق بين المؤامرات المتوقعة توقعًا صحيحًا والمؤامرات المتوهمة؛ لأن عدم التفريق بينهما هو الذي يؤدي إلى الطرفين المذمومين المشار إليهما آنفًا: من نفي وجود المؤامرة الموجودة، أو إثبات وجود ما لا وجود له منها. ووسيلة التفريق بين المؤامرة المتوقعة توقعًا صحيحًا والأخرى المتوهمة هي أن تنظر في دلائل حياكة المؤامرة، وأن تنظر في طريقة وصولك إلى توقّعها. فالمؤامرة التي تكون وسائل العلم بها دلائل قوية وقرائن كافية لإفادة اليقين أو الظن الغالب فتوقعها توقعٌ صحيح، بل واجب. وما كانت قرائن توقعه من المؤامرات ضعيفةً، ولا تدلّ عليها إلاّ بثغرات كثيرة وتعسّف في الربط بين خيوط الدعوى، فتوقّعُ مثلها سيكون خطأ ووهمًا، وهو ما نسميه بعقدة المؤامرة، خاصة إذا كَثُرَ مثل هذا التوهّمِ من شخص ما. ولكي يتضح الفرق بين أنواع دلائل العلم بالمؤمرات، فإني أضرب الأمثلة التالية: فإننا إذا عرفنا المؤامرة من خلال معلومات مسرّبة موثّقة، فعرفنا معها أهم ملامح خطة المؤامرة، وجب علينا حينئذ مواجهتها بحزم كامل مبني على يقيننا الذي توصّلنا إليه. وأما إذا كان ما لدينا من معلومات عن المؤامرة لا يصل إلى درجة اليقين أو غلبة الظن، لكنه يوقعنا في ريبة لا تتجاوز الشكّ، ولا تقاوم اليقين الظاهر ولا غلبة الظن من سياسة العدو: فلا يصحّ أن أتعامل مع هذه المؤامرة المحتملة تعاملي مع المؤامرة المتيقنة أو التي يغلب على ظني وقوعها، ولا يصح أيضًا أن أتغافل عن مثل هذا الشك وكأنه لا وجود له، وكأنه لا وجود لأي داعٍ من دواعي الريبة؛ لأن هذا الشك متعلقٌ بعدوّ ليس يُستغرب منه إبرامُ الخطط ضدنا. وأحسن وصف أجده للتعامل مع هذا النوع من المؤامرات المحتملة والمشكوك في وجودها هو (الحذر)، وهو الأمر الإلهي الذي أُمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاه المنافقين (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)، فالمنافقون هم العدو وهم أصحاب المؤامرات الدائمة ضد الإسلام. والحذر المطلوب هنا هو الحذر الذي لا يتجاوز الظن إلى اليقين في أحكامه وسياساته؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل المنافقين لإبطانهم الكفر، مع أن قتلهم قد يراه البعض هو قمة الحذر وهو تمام الحزم تجاههم، بل لم يحبسهم صلى الله عليه وسلم، ولم ينفهم عن المدينة، ولا جلد ظهورهم ولا صادر شيئًا من أموالهم، بل تركهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المسلمين كآحادهم، وأعطاهم حقوق المسلمين، ولا تكاد تفرق بينهم وبين بقية المسلمين في عموم الحقوق والواجبات. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يولِّ هؤلاء الولايات الخطيرة، ولا جعل منهم قادةً لغزواته ولا أمراء على سراياه، ولا أمر الناس بالتفقّه والتعلّم منهم. وهذا الحذر كان قَدْرًا كافيًا لمواجهة مؤامراتهم غير الراجحة ولا المتيقنة. وهذا الحذر الذي يعطيهم حقهم الذي تقتضيه ظواهرهم، ولا يبيح لهم في الوقت نفسه الكيدَ بالمسلمين = حذرٌ كافٍ في التحرّز منهم. بل هذا الحذر يفوق في صوابه كونه حذرًا كافيًا فقط؛ لأن ما تجاوزه من مزيد الحذر كالقتل والإقصاء المبالغ فيه (كالسجن أو النفي) سيكون تجاوزًا ظالمًا واعتداءً؛ لأنه أخّرَ يقيَن إظهارهم للإسلام على ظن إبطانهم للكفر، والعقل يقتضي تأخير الظن وتقديم اليقين، لا العكس. وبذلك يتضح أن الحذر الذي يصح مع المؤامرات المشكوك فيها (التي لا تترجح ظنونُها ولا نتيقّنُها)، والذي إنما نتوقعه من الخصوم والأعداء، يجب أن يكون حذرًا لا يتضمن عقوبةً ظاهرةً، ولا إعلانَ عداوةٍ، ولا نحو ذلك من أنواع المواجهة التي لا تصحّ إلاّ مع العداوة المعلنة أو مع المؤامرة المتيقنة، أو المظنونة ظنًّا راجحًا. ولئن ذكرت سابقًا نوعين من المؤامرات (المتيقنة والمظنونة ظنًّا راجحًا)، بقي أن نذكر النوع الثالث منها: وهو أوهام المؤامرة ووساوسها، وهو ما نسميه بعقدة المؤامرة. فعقدة المؤامرة تقوم على عدم اتزان في قياس الأمور: فهي: - إما أنها لا تفرّق بين المؤامرة الخفيّة والسياسة المعلنة، وعدم التفريق بينهما يجعلنا نسيء التعامل مع الواقع. - وإما أنها تجعل حذرنا من المؤامرة المحتملة هو حذرنا من المؤامرة المتيقّنة، وسبق بيان خطأ هذه السياسة. - وإما أنها تختلق مؤامرات لا وجود لها، ولا يحقّ لنا تصوّر وجودها لا يقينًا ولا ظنًّا. ويحصل هذا التوهّم: من خلال ربط ضعيف بين وقائع معينة، أو سوء تحليل للوقائع، أو تسرّع في قبول معلومات غير ثابتة، ونحو ذلك من أنواع الخلل. وقد يتساهل أصحاب عقدة المؤامرة في اعتقادها، وقد لا يهتمون في الاحتراس من الوقوع في عقدتها ووساوسها؛ لظنهم أن زيادة الحذر من العدو بتوهّم وجود مؤامرة له لن يكون له ضرر، ولسان حالهم يقول: وماذا يضيرنا لو أخذنا حذرنا من عدو يتربص بنا؟! وهم يغفلون عن أن الحذر مما لا يستحقّ الحذر يُوقع في إغفال الحذر مما يوجبه. وفي مثل هذه الخطة الفاشلة أرسل العرب مثلهم القائل: (من مأمنه يُؤتى الحذِر)، فمن معاني هذا المثل: أن الحذر في غير محله يُورث الغفلة عن الحذر في محله. كما أن هؤلاء قد يغفلون عن أن الحذر مما لا يستحق الحذر هو في حقيقته تضييقٌ في غير محله، والتضييق إضعاف لسعة الحرية وقوتها. ويغفلون أخيرًا عن أن العدو قد يكون من صالحه توهّم وجود مؤامرة؛ لأن أي خلل في سياساتنا قد يكون نافعًا له في تحقيق بعض أهدافه. ويغفلون أخيرًا عن أن خطة الحذر في غير محلها لا تكاد تخلو من وجه من وجوه الظلم، والظلم لا يجوز حتى مع العدو، وارتكابُ إثمٍ في سياق طلب النصر من الله خذلانٌ كافٍ للهزيمة والفشل. وفي فترات الضعف ووجود المؤامرات الحقيقية يستشري داء عقدة المؤامرة، ويصبح التفريق بين المؤامرة الحقيقية والمؤامرة المتخَيَّلة أمرًا عسيرًا، ويختلط على كثير من الناس التحليل العميق للواقع بالتحليل الذي يحسب العمق هو المبالغة في البعد عن الواقع، فتجد أصحاب هذا التحليل البعيد يجعلون من الأعداء أصدقاء، ومن الحروب تمثيليات، ومن علاقات المصالح علاقات توافق على المبادئ واتحادٍ في العقائد، ويطغى على تحليلهم التحليل الذي يشتهون، ونظرتهم للأشياء لا تتمّ إلاّ حسب رؤيتهم المتطرفة للعقائد والطوائف والدول. ومما يعين على التمييز بين تحليل أصحاب عقدة المؤامرة وأصحاب التحليل العميق الصحيح أمور، منها: أولاً: هو الموازنة في تحليلنا بين الأدلة الظاهرة على تفسير الواقع والقرائن الخفيّة، فلا يصح إغفال الأدلة الظاهرة بحجة التعمق واكتشاف الأسرار؛ لأن إغفال الأدلة الظاهرة إغفالاً تامًا اختلالٌ يؤدي إلى تعلق بخيالات لا حقيقة لها. كما أن إغفال القرائن إغفالاً تامًّا يجعل التحليل سطحيًّا بعيدًا عن القدرة على اكتشاف المؤامرات. وعلى المعقّدين بهذه العقدة أن يفهموا أن مجرد وجود قرائن للمؤامرة ليس كافيًا لاعتقادها، ما دامت القرائن تخالف ما هو أقوى منها. ثانيًا: استيعاب النظر في قرائن الحدث كلها، وعدم الانتقائية في اختيار قرائن دون أخرى، والموضوعية في الاستفادة من القرائن. فلا يصح أن تكون قرينةٌ ما دليلاً عندي على مؤامرة متيقّنة، مع أن هذه القرينة نفسها لا تدلّ على ذلك عندي في حوادث أخرى. ثالثًا: التنبّه إلى أن العداوة والخصومة داعٍ كبير لإساءة الظن وسببٌ عظيمٌ للوقوع في خطأ التحليل. وقد ذكرنا سابقًا الفرق بين الحذر المطلوب مع الخصم، أو العدو الذي لا أعرفه بالتخطيط لمؤامرة ضدي، والعدو الذي عرفته بحياكة المؤامرة. ولأصحاب عقدة المؤامرة حالات ودرجات؛ فمنهم قومٌ بلغوا النهاية في الوسواس، فلا يكتفون باختلاق مؤامرات لا وجود لها، ولا يكتفون من جبن الاعتراف بالخطأ بتعليق أخطائهم وإخفاقاتهم بالمؤامرات الخفيّة، هروبًا من الاعتراف بالغفلة وسوء السياسة. فهم حتى في المؤامرات الحقيقية لا بد لهم من ممارسة عقدة المؤامرة تجاهها، ولو بتوسيع دائرة عصابتها! فلو عاصروا آدم وحواء لادّعوا أن حوّاء تآمرت مع إبليس لتخرج آدم من الجنة. فإذا قلت لهم: ألا يكفي أن يتآمر إبليس مع حاله لإخراج أبوينا من الجنة؟! قالوا لك: إنما تقول ذلك؛ لأنك جزء من المؤامرة!! فإن قلت لهم: يا جماعة! لكني لم أعاصرهما (عليهما السلام)! قالوا لك: لكنك جزء من مخطط إبليس الطويل في أمده! فإن قلت: لكني من ذرية آدم (عليه السلام)، وأنا أحد المتضرّرين من خروجه (عليه السلام) من الجنة! قالوا: لكنك انهزمت أمام القوة الشيطانية! وبالطبع لن تخرج معهم إلاّ بتهمة جديدة تُضاف إليك، فما عليك إلاّ أن تمضي؛ فهم قد يصلون إلى حدّ اتّهامك بأنك أحد آلهة اليونان المتصارعة على السيطرة. فالمهم ليس هو أين ستصل بهم خيالات المؤامرة، وإنما المهم عندهم هو أنهم ليسوا مخطئين، ولا يمكن أبدًا أن يكونوا مخطئين، وواجبٌ أن تكون مشكلاتهم لا علاقة لتقصيرهم وأخطائهم بها؛ فكل الشرّ هو جزء من المؤامرة. وليس في قاموس هؤلاء (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، ولا (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)، وإنما قاموسهم شيء واحد هو (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا)!!