رأينا في الجزء الأول من هذا المقال كيف (أصَّل) العلامة ابن خلدون, لما عبَّرنا عنه ب"دنيوية/بشرية" مسائل الحكم وشؤون السياسة, وبصفة عامة: مسائل الاجتماع البشري. واليوم نعاود الإبحار معه مرة أخرى, لنرى كيف يؤصل لهذه المسائل من زوايا أخرى في فصول أخرى من مقدمته. لكن قبل ذلك, لا بد لنا من التأكيد على أمر غاية في الأهمية, وهو أننا إذ نناقش هذه المسائل, فإننا لا نناقشها, أو نعرض لها لذاتها, بقدر ما نهدف من وراء ذلك إلى المساهمة في قطع حبل السرة بين جماعات الإسلام السياسي, وبين ذلك الأساس الذي تقتات عليه, متمثلاً في ما تدعيه من أنها تسعى من وراء هرولتها نحو القبض على سُدات الحكم في البلدان العربية والإسلامية, إلى تحكيم"الشريعة", أو إلى "أسلمة" الحكم. يعرض ابن خلدون أولاً لمسألة (وجوب) نصب الإمام, من منطلق عدم جواز ترك المجتمعات البشرية فوضى من دون حاكم تُفوض له قيادتها, بقوله:" ثم إن نصب الإمام واجب, قد عُرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين, لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بادروا عند وفاته إلى بيعة أبي بكر, وتسليم النظر إليه في أمورهم. وكذا في كل عصر من بعد ذلك. ولم تُترك الناس,( لا حظ: لم يقل المسلمين), فوضى في عصر من الأعصار. واستقر ذلك إجماعا دالاً على وجوب نصب الإمام". إن المبدأ العام الذي أقره الإسلام ليكون حاكماً على مجريات كافة شؤون ومسائل الاجتماع البشري, هو العدل بمفهومه الشامل. والعدل لا يتجلى إلا بمراعاة تحقيق المصلحة العامة للمنضوين تحت لواء الحاكم أو الحكومة. لكن وجوب نصب الإمام, مثلما هو مدرك بالشرع, فهو مدرك بالعقل أيضا, بمعنى أنه حتى لو لم يأت الشرع بهذا الوجوب, فإن العقل البشري قادر على إدراكه, لأنه يقع تحت بديهياته. هذا ما أكد عليه ابن خلدون بقوله:"وهذا المعنى( = القول بأن وجوب نصب الإمام معروف بالشرع فقط), هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبوات في البشر, وقد نبهنا على فساده. وأن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد, وهو غير مسَلَّم. لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك, وقهر أهل الشوكة، ولو لم يكن شرع, كما في أمم المجوس, وغيرهم ممن ليس له كتاب, أو لم تبلغه الدعوة". ثم يضيف:" وقد نقول: يكفي في دفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه, بحكم العقل. فادعاؤهم( = الفلاسفة) أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هنا, ونصب الإمام هناك غير صحيح, بل كما يكون(= ارتفاع التنازع) بنصب الإمام, يكون أيضاً بوجود الرؤساء وأهل الشوكة, أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم. فلا ينهض دليلهم العقلي( = نصب الإمام بموجب الدليل الشرعي فقط) المبني على هذه المقدمة". هذا بالنسبة ل"نصب" الإمام, أو تعيين الحكومة بلغة معاصرة. أما كيفية اختيار ذلك الإمام, أو تلك الحكومة, فهي آلية عقلية, مشروطة بنسبية الأعصار والأمصار. ولو كان ثمة نصوص شرعية تحدد من هو الخليفة, أو كيفية اختياره, لما وقع الاختلاف المشهور بين الصحابة في السقيفة. بما يعني أن الشرع المطهر ترك (كيفية) الاختيار للناس لينظموها وفق ما تجود به عقولهم, وتناغماً مع معطيات زمانهم ومكانهم. وإذا كانت الكيفية التي يُختار بواسطتها الحاكم, اجتهاداً مشروطاً بإحداثيات الزمان والمكان, فإن كيفية (سَوْسِ) الحاكم للمحكومين هي الأخرى مسألة اجتهادية, مشروطة بمراعاة معيار المصلحة, وهو معيار نسبي متموج, ومتلون بألوان الأمكنة والأزمنة معاً. وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون: "هذه المعاني التي يحصل بها ذلك,( = كيفية اختيار الحاكم), لا تبتعد عن الحس كل البعد, ولا يتعمق فيها الناظر, بل كلها تدرك بالتجربة (= التجربة الاجتماعية= تراكم الخبرة البشرية), وبها تستفاد, لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات, وصدقها وكذبها يظهر قريباً في الواقع". ويعلق الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه:( فكر ابن خلدون: العصبية والدولة) على هذا النص الخلدوني, بقوله:" ما يخص مسائل وقضايا العالم المادي المحسوس, وبصفة عامة شؤون الاجتماع, فإن ابن خلدون يرى أن الشارع لا يفرض علينا نظاماً معيناً محدداً يشمل جميع جزئيات وتفاصيل حياتنا. ولذلك, كان الوحي في الأعم الغالب, خاصاً بالتكاليف الشرعية. أما شؤون الدنيا وأمور المعاش ومسائل الاجتماع والحكم, فهي متروكة للعقل". وهكذا, فإن "قوانين الحكم والسياسة يمكن أن تعتمد على العقل وحده, دون الحاجة إلى شرع, لأن جوهرها إنما هو اجتناب المفاسد إلى المصالح, والقبيح إلى الحسن. وهذا وذاك تتم معرفته بالتجربة". وهذا ما أدركه أيضاً الفقيه الحنبلي الكبير:ابن تيمية, عندما أكد على "أن مدار الشريعة على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. فحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله". قوانين الحكم وشؤون السياسة يمكن أن تعتمد على العقل وحده, ليكن ذلك, ولكن كيف يمكن لنا تكييف هذا الاستنتاج من الناحية الشرعية؟ الواقع أن عقلنة هذه المسألة:( اعتماد قوانين الحكم وشؤون السياسة على العقل ) تتكئ على حقيقة أن المبدأ العام الذي أقره الإسلام ليكون حاكماً على مجريات كافة شؤون ومسائل الاجتماع البشري, هو العدل بمفهومه الشامل. والعدل لا يتجلى إلا بمراعاة تحقيق المصلحة العامة للمنضوين تحت لواء الحاكم أو الحكومة. وهذه المصلحة- كما أشرنا- معيار نسبي تاريخي. وما يتحلى بوصفي النسبية والتاريخية لا يمكن إدراكه إلا بالعقل المحايث زماناً ومكانا. المبدأ العام أقره الإسلام كغاية ثابتة متعالية على الزمان والمكان, لكن (وسيلة) تحقيقه متروكة من قبله تبعاً لمجريات الزمان والمكان. ولسائل أن يسأل: إذا كان الأمر كذلك, فماذا يمكن أن نقول عما أصَّله الفقه الإسلامي(السني تحديداً) بشأن الخلافة, التي نُظر إليها على أنها النظام السياسي الوحيد المقبول شرعاً لحكم المجتمعات الإسلامية؟ الحقيقة أن الفاحص المتجرد لتاريخ "الكلام" في الخلافة, سيتبين له أنه مجرد انعكاس لما جرى في الماضي من جهة, وشرعنة له من جهة أخرى, أمام خصم سياسي آخر يتوسل شرعية أخرى. والسؤال هنا هو: كيف جرت الأمور على ذلك الترتيب؟ الأسطر التالية تجيب عن هذا السؤال, بما تسمح به المساحة المتبقية. بدأ الشيعة أولاً في التنظير ل"الإمامة", بالقول بأحقية علي بن أبي طالب وذريته من ولد فاطمة رضوان الله عليهم في خلافة النبي صلى الله عليه وسلم ب"وصية" منه. هذا القول,إذ (يُظهر) أحقية آل البيت في" الإمامة" من منطلق ديني بحت, فهو (يبطن), من الناحية السياسية البحتة, رفضاً لما جرى في السقيفة أولاً, ثم في عام الجماعة ثانيا. هذا التنظير الشيعي ل"الإمامة", دفع أهل السنة إلى التنظير ل"كلام" آخر يستهدف الدفاع عن شرعية حكم الخلفاء الراشدين الثلاثة:(أبي بكر وعمر وعثمان) رضي الله عنهم خاصة, والأمويين, خاصة معاوية فيما بعد. هذا "الكلام" أنتج فيما بعدُ ما يمكن أن نطلق عليه "نظرية الخلافة عند أهل السنة". وهي نظرية تقول بأن لأهل الحل والعقد اختيار/ مبايعة إمام عليهم بتراضيهم. ثم ضمرت تلك النظرية فيما بعد, لتقتصر على مبدأ:"من اشتدت وطأته وجبت طاعته". وهي بالتالي رد على نظرية" الإمامة" عند الشيعة, التي ترى " أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تُفوض إلى نظر الأمة و يتعين القائم بها بتعيينهم, بل هي ركن الدين و قاعدة الإسلام, و لا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة. بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوما من الكبائر و الصغائر". وبالجملة, فكلا النظريتين مجرد انعكاس لسياسات ماضية من جهة, كما أنهما ولدا من رحم التنافس السياسي بين الطائفتين: السنة والشيعة من جهة أخرى. هذه الحقيقة, التي ينبغي على النخب الإسلامية استحضارها وبثها في كافة المناشط, تقضي على أهم وأخطر فزاعة تستصحبها الجماعات المتشددة اليوم لفرض إيديولوجياتها على الشعوب الإسلامية,أعني بها ما تدعيه من أنها تسعى إلى إعادة نظام الخلافة الإسلامية بصفته النظام الوحيد المقبول شرعاً لحكم المسلمين. إن ما تدندن حوله الجماعات الأصولية اليوم, والتي وجدت لها مواطئ أقدام عدة بعد الثورات العربية الأخيرة, حول استصحاب (الحاكمية) في التشريع, ليس من الإسلام في شيء. إنها مجرد شنشنات تتوسل من خلالها الوصول إلى سدة الحكم, ومن ثم إعادة محاكم التفتيش جذعة في حياة الشعوب العربية والإسلامية. ذلك أن الإسلام, كما مر بنا آنفا, أقر المبدأ العام,الذي تجب مراعاته كغاية, سواء أكان في الأحكام, أم في شؤون السياسة والحكم. أما (كيفية) الوصول إلى ذلك المبدأ, فقد تركها للناس وفقاً لما تتطلبه ظروف أزمنتهم وأمكنتهم. وهذا يعني أنه ليس لأحد- سواء أكانوا جماعة أم أفراداً- أن يدعي أن وسيلة بعينها هي المقبولة شرعا, أو أن نظاماً بعينه مقبول بصفته إسلاميا, وآخر مرفوض بصفته كفرياً. ذلك , أن وسيلة اختيار الحاكم, أو الحكومة, لا تتحقق إلا باشتراك المجتمع كله في بحثها وإقرارها, والديمقراطية, التي تكفرها أو تبدعها, الجماعات الأصولية, ليست في حقيقتها إلا إحدى الوسائل المعاصرة لكيفية الوصول إلى تلك الوسيلة. والنتيجة, أن تلك الجماعات الأصولية, هي في أحسن أحوالها مجرد فئة أو تيار من تيارات المجتمع, تشترك مع باقي الفئات أو التيارات الأخرى في بحث, أو إقرار الوسيلة أو الوسائل التي تُستحصل بها المصلحة العامة. ومن ثم, يكون لزاماً عليها, إن كانت صادقة في دعواها, أن تشارك في الانتخابات التي تجرى في بلدانها, لا بصفتها أحزاباً دينية تمتلك الحق الحصري الوحيد, بل بصفتها أحزاباً سياسية, تمارس السياسة في السياسة, لا السياسة في الدين, كما هو واقعها المعاصر.