في الوقت الذي تتسارع فيه خطوات الجماهير في تونس وأخيراً في مصر للتغيير، بدا واضحاً أن خطوات علماء ومؤسسات دينية تتباطأ متأنية في قراءة المشهد بكل أبعاده تارة، فيما تتباين آراء علمائها ومنظريها بصورة متفاوتة تارة أخرى بين مرحب ب«الثورات المباركة»، ورافض لما يراه «العبث بأمن الأوطان».ولم يخرج الرأي الرسمي للمؤسسة التقليدية عن موقفه القديم من حرمة التظاهر والخروج على الحاكم المسلم، إذ جدد المفتي العام رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ رأي المؤسسة الرسمية في المسألة، عندما حذر من المظاهرات والاعتصامات باعتبارها «من أسباب الفتن والضلال، ومنها إثارة الفتن بين الشعوب والحكام عبر المظاهرات والمسيرات، وأنه لا هدف حقيقي لها، إنما هي أمور جيء بها لضرب الأمة في صميمها وتشتيت شملها والسيطرة عليها وتفريق كلمتها وتقسيم بلادها». وأضاف: «ان لها عواقب وخيمة ونتائج سيئة بها تسفك الدماء وتنتهك الأعراض وتسلب الأموال، ويعيش الناس في رعب وخوف وضلال». ونبه المفتي العام للمملكة إلى أن «هذه الأحداث تستغلها الحركات الحزبية والحركات المنحرفة لتتخلل صفوف الأمة وتبث سمومها»، مطالباً بالوعي والحذر، مؤكداً أن «أهل السنة والجماعة يرون طاعة ولاة الأمور من أصول عقيدتهم الصحيحة الدالة على السمع والطاعة في الأمر بالمعروف لما فيه من الخير والصلاح للأمة واستقامة حالها وانتظام كلمتها وفيه تحقن الدماء وتحفظ الأموال الأعراض وتنتظم الحياة». وفي موقف مشابه كرر الشيخ صالح اللحيدان موقفه من التظاهر في أحد برامج الإفتاء، إذ أكد أن الخروج الجماعي لم يؤذن به إلا في الجهاد في سبيل الله، ودخل في تفاصيل المشهد المصري بقوله: «لا شك في أن الحكومة العسكرية هي في بدايتها ثورة لكن لم يرق فيها دماء، فالانقلاب على الملك فاروق لم يحدث فيه ذلك، والجور الكثير إنما جاء في تلك الحكومات التي تلت هذه الثورة». وحدد موقفه من أحداث الثورة الأخيرة بقوله: «لكن الذي طرأ في اليومين الأخيرين يبدو أنه أدخل في ما ليس فيه، ولا يعني هذا إذا لم يدخل فيه شيء أن هذا عمل مشروع، فلما تطورت هذه المظاهرات صار يحمل رايتها من لا يكون له قسط من الإسلام، ولو لم يكن فيها إلا أهل العلم الشرعي لانتقدها العلماء». إلا أن ذلك لم يمنع اللحيدان من نصح الرئيس المصري بالتنحي لضرورة أخرى هي «حقن الدماء» كما قال وليس تصويباً منه للتظاهر ضده. ويبدو أن هناك حساسية من دخول رايات غير إسلامية في المظاهرات المصرية، وهو ما أفصح عنه أستاذ أصول الفقه في جامعة أم القرى الدكتور محمد السعيدي، الذي انتقد خطاب الشيخ يوسف القرضاوي الذي وجهه للمتظاهرين وقال ل«الحياة»: «الشيخ القرضاوي وغيره من العلماء كانوا يدفعون الناس باتجاه التظاهر من دون أن يتولوا قيادة المتظاهرين وإرشادهم إلى فترة ما بعد النظام، ما أدى إلى أن تقوم الأحزاب العلمانية الأخرى بما غفل عنه هؤلاء المشايخ، فثمة بدلاء من جهتها للنظام، تمهيداً لاختطاف ثورة الشعب وما حصل سيؤدي إلى أن تكون ثورة شباب مصر التي ثاروا بها على العلمانية وعلى الحكم العسكري مختطفة من العلمانيين والعسكريين كما في تونس، إذ أزيح نظام ابن علي، ولا توجد مؤشرات أن الإسلاميين سيحلون محل ذلك التغيير». جائزة بحسب الدستور السعيدي لم يقف موقفاً سلبياً من التظاهرات، إذ أبدى تخوفاً من وصول التيارات العلمانية في مصر إلى السلطة، «كيف أمنع التظاهر والنظام يجيزه؟ ليس من حق أحد أن يحرمه ما دام النظام يجيزه، إذ ان من أساسيات النظام الجمهوري السماح بحرية التعبير والمظاهرات، فإذا كان النظام يبيح التظاهر فلا حرج في إقامة المظاهرات أياً كان عدد القائمين بها، إلا أن النظام الجمهوري يجعل للمظاهرات حداً دستورياً ينبغي ألا تتجاوزه، وهو المطالبة بالإصلاح بالتغيير وفق أحكام الدستور، وكل ذلك لا يمنعه الشرع ما دام النظام يسيغه، ولا يتعارض مع مقاصد الشريعة». خلافاً لذلك يبدي أستاذ الدراسات العليا في الجامعات والمعاهد السعودية عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الدكتور محمد أحمد الصالح تعاطفاً كبيراً مع المتظاهرين، ويختلف مع من يقول بحرمة المظاهرات، خصوصاً في الظرف المصري ويقول: «هذا الكلام يحتاج إلى نظر والله تعالى يقول: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)، فلماذا لا يحتج المحرمون بهذه الآية؟ من خرجوا إلى ميدان التحرير ضيق عليهم في حياتهم ومعاشهم، فمنهم من لم يجد فرصة للتعلم أو العمل، وفيهم كثير ممن ألم بهم الكرب والضيق والهم إلى حد لم يعد يطاق». وأشار الدكتور الصالح إلى أنه لا يختلف مع رأي تحريم التظاهرات إذا كان الأمن مستتباً، وكان الحكام عادلاً، وأتى من يخل بالأمن، لكن ذلك كله لم يتوافر في الحال المصرية، «من قاموا بالمظاهرات خصوصاً من هبوا يوم الثلثاء 25 كانون الثاني (يناير) هم من صفوة الشباب الصافي النقي التقي، خرجوا بمصاحفهم ولم يكن معهم سلاح، أثقلتهم الديون، وسدت الدنيا في وجوههم يعانون من بطالة لم يشهد لها التاريخ في بلدهم وظلم، وتزوير انتخابات واعتقالات وسجون، ومن بيده الأمر في مصر طغى وتكبر وتجبر، وجعل 40 مليوناً من أهل مصر الغنية بالخيرات تحت خط الفقر، وأتاح الفرصة للفساد أن يستشري». مظاهرة في عهد السلف! تفاعل العلماء السعوديين لم يقف عند هذا الحد من الجدل والاختلاف في الرأي، إذ خرج عضو مجلس الشورى عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور حاتم العوني الشريف بإجابة عن حكم المظاهرات السلمية التي لا تشهر السلاح ولا تسفك الدماء ولا تخرج للاعتداء على الأنفس والممتلكات، إذ اعتبرها خروجاً سليماً وليس مسلحاً ضد الحكام، ولا علاقة لها بتقريرات الفقهاء عن الخروج وأحكامه، «لأنها ليست خروجاً ومن أدخلها في هذا الباب فقد أخطأ خطأً بيناً». وأضاف: «المظاهرات السلمية هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، ومن وسائل التغيير، ومن وسائل الضغط على الحاكم للرضوخ لرغبة الشعب. فإن كان الرأيُ صواباً، والتغييرُ للأصلح، ورغبةُ الشعب مشروعةً كانت المظاهرةُ حلالاً، بشرط ألا تترتب عليها مفسدة أعظم من مصلحتها المطلوبة. فحكم المظاهرات حكم الوسائل، وللوسائل حكم الغايات والمآلات». واستشهد العوني بفعل عدد من الصحابة، «فقد سبق لسلف من الصحابة الكرام القيام بمظاهرة بصورتها العصرية، فإن من خرج من الصحابة يوم الجمل للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وعلى رأسهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا ألوفاً مؤلّفة، خرجوا من الحجاز للعراق، ولم يخرجوا لقتال ابتداءً (كما يقرره أهلُ السنة في عَرضهم لهذا الحدَث). وإذا لم تخرج تلك الألوفُ للقتال، فلم يبق إلا أنهم قد خرجوا للتعبير عن الاعتراض على عدم الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وللضغط على أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكي يبادر بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه. وهذه مظاهرة سلفية بكل معنى الكلمة، وقعت في محضر الرعيل الأول من الصحابة الكرام، ولا أنكر عليهم عليٌّ رضي الله عنه أصلَ عملهم، ولا حرمه العلماء، ولا وصفوه بأنه خروج على الحاكم». وخلص العوني إلى أن حكم المظاهرات في الأصل أنها مباحة «ولا تكون محرمة إلا إذا ترتبت عليها مفسدة أعظم من مصلحتها، وقد تكون واجبة: وذلك إذا لم يُمكن إصلاحُ المفاسد إلا بها من دون أن يترتب عليها مفسدة أكبر. وإطلاق القول بتحريمها في كل حال، ووصفها بأنها دائما تؤدي لمفاسد أكبر من مصالحها شيء لا يدل عليه النقل ولا العقل ولا الواقع، فليس هناك نصٌّ خاص من نصوص الوحي يدل على تحريم المظاهرات، فيلزم المسلمين التعبّدُ بالرضوخ له، ولا يرفضها العقل مطلقاً، والواقع يشهد بأن من المظاهرات ما أصلح ونفع وأفاد، ومنها ما هو بخلاف ذلك، فلا يصح ادّعاءُ أن واقعها يدل على تحريمها». والمثير أن الالتباس والارتباك في تحديد الموقف الشرعي من مسألة المظاهرات، والمطالبة بالتغيير لم تكن حكراً على العلماء في السعودية، ففي مصر مركز الحدث تباين الموقف بين مشيخة الأزهر، وعلى رأسهم الدكتور أحمد الطيب الذي يتهم بالتماهي الشديد مع النظام بتحديده موقفاً وسطياً، ودعا الشبان المتظاهرين في ميدان التحرير إلى انتخاب من يمثلهم للاجتماع معه في رحاب الأزهر للتحاور، مؤكداً أنه لن يتخلى عنهم. اللبس أيضاً حدث مع بعض الجماعات السلفية في القاهرة والإسكندرية حينما أبدت موقفاً معارضاً للمظاهرات، باعتبارها محرضاً على أعمال تخريب والنهب وخروجاً على الحاكم المسلم، إلا أنها غضت الطرف أخيراً بعد إعلانها بيانات تحض على جمع كلمة المتظاهرين، والابتعاد عن أعمال الشغب والتخريب. أما الشيخ يوسف القرضاوي، فدعا في أكثر من منبر إلى تغيير النظام، وبث رسائل للمتظاهرين تشد على أيديهم بالمطالبة، وتحرضهم على عدم الاستسلام والبقاء في ميدان التحرير حتى إعلان الرئيس المصري تنحيه عن منصبه.