عبد العزيز السماري - الجزيرة السعودية كانت جدران قصر الحمراء تتوشح بآخر مشهد لغروب الشمس عن حكم المسلمين على أرض الأندلس، وعلى هضبة قريبة منها، وقف أبو عبدالله يلقي نظراته الأخيرة على قصره الذي يختصر شموخه مجد صقور بني أمية في أوروبا...، كان يحاول استرجاع - في لحظات قصيرة - حكمه الذي ضاع من يديه وهو غارق في ملذات الحياة بعد أن تمزقت الأندلس إلى دويلات بسبب ثقافة الجشع والطمع وسياسة احتكار المجد. كان أبو عبدالله يتمنى للزمان عقارب تعود به للوراء ليصلح ما أفسده بيديه في أرض أجداده، إلا أن دمعات حارقة أيقظته من حلمه القصير، حاول أن يخفيها عن والدته، لكنها عاجلته بكلمات حاسمة مثل وقع الحسام المهند: ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً.... لم تحافظ عليه مثل الرجال... ذهب أبو عبدالله، وذهب غيره من حكام المماليك العربية، ولم يفطن العرب لأهمية علوم السياسة، كما فهمتها الشعوب الأخرى، فقد أتقن العرب فنون الأدب والشعر، وأبدعوا في التجارة والهجرة، ونشروا دينهم من مشارق الأرض إلى مغاربها، لكنهم فشلوا في السياسة فشلاً ذريعاً، فتعاملوا معها من خلال منهج (الحاكم من يستبد)، فكانت النتيجة ضياع مجدهم وانحسارهم ثم هروبهم إلى الهامش في التاريخ الحديث..، وظلت قصة آخر أيام غرناطة تعود إلى الواجهة كلما أضاع عربي مجداً له، وإلى اليوم يقبل العرب مناهج التطوير في مختلف نواحي العلوم إلا السياسة وفنون إدارة الناس.. كان آخرها ما يحدث في السودان واحتمال خسارته لجزء كبير من أراضيه، والسبب كالعادة الإصرار على الحكم من خلال منهج الاستبداد وفرض الرأي الواحد، ورفع شعارات دينية خاوية من المقاصد الشرعية والحقوق الإنسانية، فكانت النهاية مريرة، فقد سئم الجنوبيون الوعود باعتماد الديموقراطية وحقوق الإنسان وحسن توزيع الثروة نهجاً مشروعاً للجميع..، فحاربوا من أجل انفصالهم وضحوا من أجل خروجهم عن المحيط العربي المحبط. لكن ما حدث في تونس يمثل فصلاً مختلفاً عن فصول التاريخ العربي الحديث، ليس فقط لأن الحكم من خلال قبضة الأمن لم ينجح في كبت مطالب الجماهير، ولكن لأن ما حدث خلال أسابيع دليل حي على أن الحراك الحقيقي لا يظهر على السطح إلا عند اكتمال عناصره الطبيعية، فقد وصلت الجماهير إلى درجة الغليان في لحظة تاريخية، لتجتاح المجتمع التونسي، ويخرج الناس في حالة أشبه بالبركان، إذ لم يعد لديهم ما يفقدونه، فكانت النتيجة زلزالاً في قطب الجمود السياسي العربي.. يقول الخليفة الأموي معاوية - يصف سياسة حكمه في عصره: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.، لكن تلك الشعرة لم تكن تعني ذلك الخط الرفيع بين السلطة ومنطق الموضوعية فحسب، لكنها كانت تمثل الخيط الرفيع بين القوى غير المتكافئة.!. فصراعه مع القوى المختلفة والصاعدة، لم تحكمه شعرة علاقة مجردة من مؤثرات التميز، فقد حرستها تفوق في امتلاك سيف السلطة، وفي لسان خطابها الشرعي.. لكن المنطق السياسي الأموي في العصر الحديث قد انتهت فاعليته تماماً، ولم يعد نهج الخليفة معاوية صالحاً لأن يحكم في هذا الزمان، فقد أوجدت الشبكة المعلوماتية ثقوباً في الجدران العالية، ثم اخترقتها ليدخل مفهوم الحقوق والحياة الكريمة إلى العقول، وما حدث مؤخراً يعني أن الشعارات القومية والدينية الخاوية قد ولى زمنها، وتم استبدالها بمطالب واقعية تحفظ كرامة الإنسان المتمثلة بحقه في العيش الشريف وفي مشاركة الجميع، وفي أن يعيشوا سواسية في ظل قانون يحمي حقوقهم الإنسانية.. تحتاج الأمم في الزمن الحاضر رغبة وإصراراً على تلبية مطالبهم الحضارية، وإلى إكرام النفس البشرية عبر احترام حقوقها الطبيعية، ولا سبيل في المستقبل عن اتباع الطرق النزيهة والشفافية عند التعامل مع مطالب الناس، فقد تغير الحال، وأصبحت المفاهيم الحديثة ثقافة عامة تتداولها الأجيال الجديدة.